حول شمول النظر للكمال الإلهي
عطفا على هذا الحديث السابق عن الكمال الإلهي وعلاقته بطرح الاستشكالات على الإسلام
بعض المتشككين ينطلق من نظرة للكمال فيها اختزال وإغفال لبعض أنواع الكمال الإلهي، وهو الكمال المتعلق بالعظمة والألوهية، وهو من أهم أنواع الكمال
فهؤلاء يهملون أن من كمال الله تعالى أنه عظيم، وحقه على عباده أعظم حق، والكفر به أعظم جرم، وحقه يتضمن الانقياد له بالعبودية الخالصة والسعي في مرضاته وشكر نعمته والصبر على أمره، وهذه الأمور يظهر فيها من صور العبودية الجليلة الجميلة التي يستحقها سبحانه
فترى هؤلاء يتجاهلون ذلك، وينظرون لله تعالى من جهة الربوبية والرحمة فقط، فيستشكلون أنه شديد العقاب لمن كفر به، ويستبشعون تخليد الكافر في النار، والتفريق بينه وبين المسلم في بعض الأحكام
وهؤلاء لو كان لهم على بعض الناس شيء من المعروف والإحسان، أو كانوا أصحاب مناصب نالوها باستحقاق بمؤهلات ومهارات، ثم قابلهم بعض الناس بنكران ما يستحقون ومقابلته بالجحود والإساءة أو حتى عدم التقدير الكافي، لأرغو وأزبدوا، مع كونهم يرون أن هذا الغضب منهم كمال لأنه متوافق مع استحقاقاتهم ومنزلتهم، رغم أن كل ذلك هو في الحقيقة من منة الله تعالى عليهم، فكيف بمن يستحق العبادة لذاته دون حاجة لأحد، ويستحقها لكماله المطلق دون نقص!
فكشف هذه الاستشكالات بل عدم رؤيتها شيئا هو أمر حاصل بوضوح عند من يستشعرون عظمته واستحقاقه للألوهية وحده سبحانه، فيسلمون له ويخضعون ويعظمون، وما أبعدهم عن مثل هذه الاستشكالات
ولعل هذه الاستشكالات إنما برزت في بعض أهل هذا العصر لما جعلت بعض الفلسفات الإنسان هو مركز الوجود وعظمته لمجرد إنسانيته وكرست له الحق لذاته بعيدا عن موقفه من حق خالقه، فهذه الفلسفة لا تعرف معنى الألوهية لله أصلا، وإذا عرفت الله تعالى فلن يعدو فيها منزلة الرب الناقص الذي يتجلى بصفات ناقصة يتخيلها هذا الإنسان هي الكمال، وذلك من منظوره هو لنفسه أنه صاحب الحق الأعظم!
والحقيقة التي لا يمكن أن يقود العقل الصحيح إلا لها، هي أن خالق هذا الوجود الغني عن غيره الذي هو سبب كل وجود، لا يمكن أن يتجرد عن علوه على خلقه بالقدر والقهر، ولا يتصور أن ينزل لمن كفر به بمنزلة المساوي الذي يعجز عن قهر مساويه، فضلا عن ما في ذلك من ظلم لمن أحسن وعرف حقه سبحانه وخضع له، تعالى الله عن كل ذلك
فيا من طغت نفسه حتى أراد أن يرى الخالق بمنزلة المخلوق، وأخذ يفصل كماله على مقاسه الذي يناسب خروجه عن منزلة المخلوق الضعيف المحتاج المنقاد لربه، أفق من هذا الجنون قبل أن تفاجئ بنهاية الامتحان، ثم تصير إلى حيث صار كل من طغا فتندم حين لا ينفع الندم!
————-
يبقى أن بعض هؤلاء، يستشكل أن يخلق الرب سبحانه أصلا من يكفر به بدلا من أن يهدي كل خلقه، وهذا أيضا استشكال ينطلق من اختزال الكمال، وهذه المرة في جانب القدرة مع اختزال أيضا في كمال الألوهية وكمال الحكمة..
فكمال قدرة الله تعالى لا تنفك عن كمال ألوهيته، ولذا خلق الإنسان وأعطاه قدرة اختيار الهداية والضلال، لحكم كثيرة من أعظمهما أن يظهر بذلك من يعبده اختيارا ويتميز عن عبودية القهر، وفي عبودية الاختيار من محبة الله تعالى وإيثار مراده والصبر له في مجاهدة الهوى والشيطان وأتباعه من جمال التعبد ما لا يوجد في عبادة الاضطرار
واستشكال هذا الأمر شبيه باستشكال أن الله تعالى يخلق من يرتكب الشر، وهو يعود للقدح في أفعال الله تعالى، وليس خاصا بالأخبار والأحكام الشرعية التي تخبر عن عذاب الكفر أو تحكم عليهم بأحكام خاصة بهم، فالواقع في هذه الاستشكالات مشكلته مع أصل كمال الله تعالى، فهو يفر من عدم فهم الكمال إلى جحد الكمال بالكلية، والعاقل لا يفر من أمر استصعب فهمه إلى أمر يستحيل عقلا!
كثير من هؤلاء يزعم أنه ينطلق من العقلانية ثم ينحر العقل بتقرير المستحيلات، فأي بقاء لمعنى العقل عندما تقدح في ضرورياته ومنطلقاته الأولية، فتنتقل من عدم فهمك لأفعال الله وتشريعاته، إلى إنكار مبدأ هذا الوجود لتصير إلى تصور عدمي مادي ليس فيه معنى للعقلانية ولا غيرها من المبادئ غير المادية، والتي تقوم على وجود الخالق الذي جعل الإنسان عاقلا برحمته بحيث يعرف تلك المعاني ويميز بها، ولولا هذا التصور لفقد العقل معناه وأساسه!
(انظر للمزيد دليل القدرات العقلانية )
أحدث التعليقات