رسائل الغربة
إذا حبست نفسك في ظروف اللحظة الراهنة فقد ينسد عليك الأفق وتغيب عنك شموس الأمل..
فإذا تدبرت القرآن..
وجدت فيه التحذير من الاغترار بظاهر الأحوال، والكشف عن حقائقها وبواطنها، فأنت تسير على صراط مستقيم وهدى من الله وتأييد، وأهل الباطل يتنكبون ويتشتتون وتتخبطهم الشياطين ويألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون، فتعتدل نظرتك لإيمانك بخبر الغيب.. ولبصيرتك التي ترى بها ما وراء سطور الواقع من بعض حقائق التدبير..
ثم تجد التحليق بك في أمم خلت، عمروها وفتحت لهم رغم خروجهم عن طاعة ربهم، وضاق فيها على أهل الإيمان مثل ما ضاق عليك أو أكثر، ثم فني الظلم وأهله وكانت العاقبة للمتقين..
ثم تجد الوعد بظهور هذا الدين ومن تمسك به، فتنفتح أمامك نوافذ المستقبل، وترى أملا جديدا ينبع من ثقتك بربك، وهي الثقة التي يعززها القرآن بحديثه عن الله تعالى وصفاته وسننه..
كن على ثقة من أن كل ما يجري هو بتقدير الله وحكمته.. وأنه لن يخرج عن سننه
نحتاج كثيرا الاقتراب من القرآن وتقوية الصلة بالله من خلال الصلاة
الفتن تتزايد وتشتد وتتخطف من هنا وهناك.. والنجاة بالاعتصام بالله وحده، والقلب الذي لم يتعلق به ويتعود الخضوع والصلة قد ينقطع عنه لفتنة من تلك الفتن والعياذ بالله
تأملوا كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث في الغار لما خالف قومه، ثم آنسه الله بالوحي، فاجتمع له الرغبة إلى الله والوحي من الله.. فالصلة تقوى بذلك ويشتد الاعتصام
لهم الزخارف والصور والغرائز
ولنا الحقائق وساميات المعاني والخلود
ولن تغلب لغة الأرض لغة السماء
وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق، واحرص على اللحاق بهم، وغظ الطرف عمن سواهم؛ فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم؛ فإنك متي التفت إليهم أخذوك، أو عاقوك.
الإكسير (خلاصة أعمال القلوب من مدارج السالكين لابن القيم)، 14
لست غريبا إذا كنت على صراط الأنبياء ، وأي شرف أعظم من أن تسلكه مقتفيا أثرهم وأثر صحابتهم وتابعيهم
بل إن خشيتك لله واستقامتك كما أمرت -إن وفقت لذلك- تجعلك منسجما مع الوجود بأسره، فكل ما فيه ممتثل أمر الله ، غير أنك تمتاز بعبودية الاختيار ، فبا الله عليك أفتشعر بغربة لأجل نشاز يسيرون عكس التيار ! وإن بدا لهم العكس!!
فلا تزيدن إلا ثباتا وخيرا.. واغتبط بنعمة الله ﷻ عليك حامدا شاكرا سائلا الله ﷻ الثبات
يشيع المنكر فلا يستنكر، ويمشي الغريب بين أسراب المفتونين، بين المتمايلين على تزيين الشياطين، فيصطلي قلبه حسرة وينعقد لسانه خشية الغدرة
فرب زفزة خرجت من لهيب الغربة لا يبرد القلب بعدها إلا رحمة والله وفيض حنانه
وما عند الله خير وأبقى
أصل هذا المنقول في فضل العلم والاشتغال به ، والحقيقة أن ذلك أصل في دفع الغربة أيضا، فتأمل:
قال الفربري :
وَأَملَى ( محمد بن إسماعيل البخاري ) يَوْماً عليَّ حَدِيْثاً كَثِيْراً
فَخَافَ مَلاَلِي
فَقَالَ: طِبْ نَفْساً فإِن أَهْلَ الملاَهِي فِي ملاَهِيهِم
وَأَهْلَ الصّنَاعَاتِ فِي صنَاعَاتِهِم
وَالتُّجَّارَ فِي تجَارَاتِهِم .
وَأَنْتَ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابه ….
[ سير أعلام النبلاء ترجمة البخاري وقال : روى الخطيب بإسناده ]
إن كنت تضحك علي من مخالفتي للكثرة
فأنا أشفق عليك من مخالفتك للفطرة
قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بعد أمره بالصبر: {فإنك بأعيننا}، فياله من حب وياله من تثبيت!
ويصيب المؤمن المتبع له صلى الله عليه وسلم قدر من ذلك بحسب اتباعه، ومهما اشتدت غربة الدين، فإن رعاية الله ومحبته تمكن المؤمن من الثبات رغم الصعوبات..
فلنثق بالله ونربي أبناءنا على ذلك.. ولا يحملنا ضغط الواقع على الضعف
قال تعالى بعد ذكر قصة نوح عليه السلام:
{تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين} [هود : 49]
تدبر ما في هذه الآية من التسلية العظيمة والتصبير، وتنبه إلى أنك في وقت الغربة تحتاج لذلك
ففي الآية لفت الانتباه إلى دليل عظيم من دلائل النبوة، وهو الإخبار بالغيوب السابقة التي لا سبيل للعلم بتفصيلها إلا من الله ، ومطابقة ما في ذلك الإخبار للكتب السابقة التي ليس له ﷺ ولا لقومه علم تفصيلي بها، والزيادة عليها بتفاصيل ليست في تلك الكتب
ويؤخذ من هذا أن من وسائل التثبيت تذكر دلائل النبوة واستشعارها وقت الشدائد، ليستحضر العبد أنه يصبر على حق قاطع، وصبره لله وبالله سبحانه
كما أن استشعار حصول حسن العاقبة للمتقين يسلي ويثبت كذلك.. فينبغي لكل من وجد الغربة على طريق الحق أن يستشعر عظم الغاية وصدقها وحسن عاقبة الثبات على طريقها
ومن عجائب الآية ربطها الصبر بقوله {فاصبر} بما سبق من العبرة في قصة نوح ودلالة ما تضمنته من غيب على نبوته باستخدام الفاء للتفريع، ثم ارتباط الصبر أيضا بما لحق من حسن العاقبة للمتقين بإنّ التي تفيد التعليل، فبمجرد قوله {فاصبر إنّ} ارتبط الصبر بالأمرين معا بإيجاز وربط فيه يسر وجمال عجيب، مع ما في الآية من امتنان بالتعليم ووعظ بالصبر وتسلية بالقصة وعبرها وحسن العاقبة الموعود بها مع التنويه بأهمية التقوى!
فما أحسن هذا البيان وما أعذبه وما أوجزه وما أجمله
مهما بدا أن التبرج وضعف الحياء من الرجال يتحول من سلوك مشين إلى مظهر “طبيعي” يتم إبرازه والتطبيع له، إلا أن اصحاب الفطر السليمة سيشمئزون من ذلك، وستبقى القيم التي رعاها الشرع هي الفضيلة والحُسن، ولن تغلب نزغات الشيطان فطرة الله ﷻ وشرعه الذي أراد له الظهور، وإنما هي ابتلاءات وفتن تقتضيها طبيعة الدار، والعاقبة لمن اتقى وثبت على الهدى
الصورة اليوم هي وسيلة للتأثير على وعي الجماهير، حيث يمكن عبر التزيين الدعائي والانتقاء والتكرار أن يتحول القليل والشاذ والقبيح إلى نمط ونموذج مكرس يتسرب للوعي أنه شائع، ثم تبدأ المحاكاة لذلك النموذج لينتقل من الشيوع في الصور إلى التفشي تدريجيا في الواقع
لا زال الواقع يخالف تلك الصور في العموم، ولا زال في النفوس أثر للفطرة والهدايات التي بثها الله في الآيات في الأنفس والآفاق، ولكن تبقى التربية والدعوة وتكثير النماذج الصالحة بالثبات على الحق وتغيير المنكر بحسب المستطاع والتوعية والنصح مطالب مهمة
إن السنن لن تتغير، والحق هو الأصل والغالب، فالشأن ليس في هذا، بل الشأن أن تثبت قلوبنا على الحق.. الشأن أن تبقى نفوسنا شامخة بالحق.. فالتغير الذي يخشى منه هو الهزيمة النفسية وقبول الباطل والانكسار أمام معركة تكريسه في النفوس
أشعر وبقوة بأن كل مظهر لا يرضي الله مهما تبهرج وتكرس وتبختر زائل، ووجوده أصلا هو استدراج، هو ليس سوى غفلة واغترار وليس له قرار.. حافظ على شعورك بعزة الدين، واستحضر أن لله ملك السموات والأرض وما فيهن.. لن يضرك شيء في هذا الحطام ما دام قلبك ثابتا على الحق معظما للحق مستحقرا للباطل
كم من شيء كان ماضيا وتغير.. كان في وقته أمرا واقعا
فلا يوجد شيء اسمه أمر واقع.. الواقع لا نخضع له ونعامله معاملة الثوابت، بل نخضعه للتغيير نحو الصواب والأكمل.. ولو جزئيا وتراكميا.. ولو بعد حين
عاشوراء كان يوم الفرج بعد ابتلاء طويل على يد فرعون الذي علا في الأرض واضطهد بني إسرائيل في أنفسهم وأعراضهم..
في اللحظة الفاصلة كانت كل المظاهر والحسابات تميل له، ولكن ظهرت الحقيقة، وهي أن تلك المظاهر كانت بتقدير الله الملك الحق، وجاء أمره بالسبب المستطاع، الذي لا يظن أبدا من امتلكت قلوبهم فتنة المظاهر والماديات أنه يغني شيئا، ضربة عصا استجابة للوحي، فإذا بالبحر ينفلق
هكذا تغير وجه التاريخ، وليعلم أهل اليقين أن العاقبة للمتقين مهما بدا في ميزان المظاهر القاصر أن الكفة مالت ميلا لا عود بعده، بل تلك حقيقة قد تكون مقدمة الفرج إذا تعلقت القلوب بالله وأقامت أمره
تدبر قوله تعالى : {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم} [الأنفال : 49]
قيل هذا ويقال ما في معناه في المواضع التي تبدو أنها أحوال ضعف للمسلمين، وميلان للكفة لأعدائهم، وتعرض دينهم للخطر، حتى يجترأ المنافقون ومن في قلبه مرض على التشكيك لأنهم يعتمدون على ما يظهر لهم، غافلين عن قوة الله وتكفله بدينه وأوليائه، وعن سنن الله وتدبيره، ولذا كانت الخاتمة باسمي العزيز والحكيم
فعلى العبد اذا رأى مظاهر الضعف إلى حد الاستخفاف بحال أهل الإيمان ووصفهم بالاغترار بالدين، ركونا من هؤلاء المستخفّين إلى ظواهر الأحوال البادية، والتي يعاملونها كأنها ثوابت دائمة، فعليه أن يلوذ بالتوكل واثقا بالله مستشعرا أنه القوي الذي لا يغلب، والحكيم في تقديره وتدبيره، ومن الأمرين يدرك أن للأحوال البادية بواطن ومآلات يعز فيها أهل الإيمان بحكمة الله ولطفه وقوته وعزته
{فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون} [الروم : 60]
رغم هذا الموج المتلاحق من الشبهات من لا دينيين وعلمانيين ومحرفين ، إلا أن الفأل عال والشعور بقوة هذا الدين متنام، فلا تلاقي عظمة هذا الدين موجة إلا انكسرت خائبة، ويبقي هذا الدين عزيزا يعز به من يعتز به، ويشتد به عود من يتمسك به.. والله أكبر
من يطلع على تاريخ انحراف النصارى وتطورات الغلو عندهم وتأثيره في التحريف يندهش من حجمه، وفي نفس الوقت يشعر بنعمة صفاء العقيدة الإسلامية ولطف الله تعالى في حفظ هذا الدين والرسالة الخاتمة، فعناية الله بها عظيمة ومنته جليلة، ولا يزال سبحانه يقيض للدين عدولا يشهدون بالحق ويردون الباطل ويحفظون الأمانة ويبلغونها لمن بعدهم جيلا بعد جيل، ومهما جرى من ضعف يُبقي الله للدين من يقول بالحق وينكر الباطل
الانتصار الدائم
قد يتعرض المسلمون في فترات للبلاء في دنياهم فيبدو الأمر وكأن الباطل علا عليهم، ومع أن ذلك أمر يتغير لحكمة الله فينصر الله أوليائه ويخزي أعدائه، إلا أن هذا التغير في موازين القوى يقتصر على الجوانب المادية.. أما قوة الحجة وظهور الحق فجانب ثابت يعز به المؤمن ويغتاظ به الكافر في كل زمان، ومهما تبهرج الباطل ونفش ريش الشبه المهترئ، فإن كل من صدق وتجرد أبصر قوة الحق وعلوه، ورأى أنوف أعداء الدين ممرغة باطراد.. وصدق الله : {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} ، وما أحلى هذه الآية على قلب المؤمن {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}
ومصداق هذه السنة الربانية يراه كل ذي عينين في تساقط الشبه كلما قابلت حجج الحق، فلا يلتقي صفاهما وقد استكملت حجج الحق وأحسن حاملها الضرب بها إلا وتباد خضراء الشبه فتغدو هشيما يذروه الرياح
يشتكي كثير من الناس من الحيرة والاضطراب بسبب تغيرات معينة حادة في البيئة المحيطة به، والحقيقة أن هذه الشكوى مزعجة ربما أكثر من التغيرات نفسها، فالقناعات التي تبنى على الدليل يفترض أن لا يؤثر فيها أي تغييرات خارجة عنه، فالعبرة بالمضامين لا بمجرد الأشكال، فهل أنت صاحب قناعة ودليل أم أمعة لا تدري لم تفعل وتترك وهمك موافقة الأشكال السائدة بغض النظر عن صوابها!؟
ف”الواجب على المسلم أن يعتز بدينه ويفتخر به ، وأن يقتصر على ما حده الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الدين القيم الذي ارتضاه الله تعالى لعباده ، فلا يزيد فيه ولا ينقص منه ، والذي ينبغي للمسلم أيضا ألا يكون إمَّعَةً يتبع كلَّ ناعق ، بل ينبغي أن يُكَوِّن شخصيته بمقتضى شريعة الله تعالى حتى يكون متبوعا لا تابعا ، وحتى يكون أسوة لا متأسيا ، لأن شريعة الله – والحمد لله – كاملة من جميع الوجوه كما قال الله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً ) المائدة/3″ انتهى .
“مجموع فتاوى ابن عثيمين” (2/301) .
الجلباب الساتر للمرأة لم يعد فريضة فحسب، وإنما هو الآن وسيلة لإظهار عزة هذا الدين وأنه باق كما أنزله الله ﷻ ، وأن ما كان عليه أمهات المؤمنين والصحابيات سيظل في أحفادهن وأتباعهن وإن رغمت أنوف الشياطين .. فلتحتسب المرأة : {ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح}
بعض الأعذار يكاد لا يتفهمها إلا من وقع فيها، وبعض الفقه يكاد لا يفقه إلا بالتجريب، وكثير من الثبات هو من عافية الله من الفتن التي قد لا نشعر بشدة الثبات فيها دون تجربة
فنحمد الله على العافية ونسأله دوامها وأن يثبت قلوبنا على ما يرضيه
أعظم الفرح في العيد هو الفرح بنعمة الهداية لهذا الدين
هذه الفرحة لن تفقدها بحجر ولا عزل ولا غربة ولا غير ذلك.. ما دمت تنطق بلا إله إلا الله فافرح بفضل الله
{ولتكبروا الله على ما هداكم}
{قل بفضل الله ورحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}
امتنعت المرأتان عن السقي حتى يصدر الرعاء حتى لا يخالطن الرجال، وهنا ملحظ ينبغي الانتباه له، وهو أنهما في موضع حاجة، فقد أرادا السقي لا التنزه أو شرب القهوة، ومع ذلك امتنعتا حتى رآهما ذلك الشهم نبي الله موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام
فواها لواقع اليوم والله المستعان
الإسلام دين الله تعالى الذي وعد بأن يظهره ويحفظه
والنبي صلى الله عليه وسلم هو خليله ومختاره لختم الرسالات
كفى بهذه النسب سببا في الاطمئنان على مستقبل هذا الدين العظيم ومن تمسك به ، فيا عباد الله اثبتوا..
من كان ألمه لما يحل بالمسلمين من مصاب دنيوي من باب التعاطف الإيماني، فحري به أن يتألم لما يحل بهم من الانحرافات العقيدة والسلوكية أيضا ومن باب أولى، فهذه من بوابات الانكسار، وقد كان السلف يخشونها ولا يغترون بما يظهر لهم من عز دنيوي، بل يكون بعضهم أشد حذرا في هذا الحال من غيره.. ثم الأهم هو ضررها الأخروي الممتد والعياذ بالله
ولذا فإن دور أهل العلم والفطنة هو مواصلة النصح والتذكير بالله ووجوب الرجوع له وشكره وتصحيح الأخطاء، فتحقيق العبودية لله على كل حال أعظم من تحقيق النصر، بل هو على التحقيق أعظم النصر وطريقه الوحيد إذا فهمنا النصر بشكل صحيح
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – : الْحَاجَةُ إلَى الْهُدَى أَعْظَمُ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى النَّصْرِ وَالرِّزْقِ ؛ بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا هُدِيَ كَانَ مِنْ الْمُتَّقِينَ ؛ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ، وَكَانَ مِمَّنْ يَنْصُرُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَمَنْ نَصَرَ اللَّهَ نَصَرَهُ اللَّهُ كَانَ مِنْ جُنْدِ اللَّهِ وَهُمْ الْغَالِبُونَ . ( مجموع الفتاوى : 14 / 39 )
إذا حبست نفسك في ظروف اللحظة الراهنة فقد ينسد عليك الأفق وتغيب عنك شموس الأمل..
فإذا تدبرت القرآن..
وجدت فيه التحذير من الاغترار بظاهر الأحوال، والكشف عن حقائقها وبواطنها، فأنت تسير على صراط مستقيم وهدى من الله وتأييد، وأهل الباطل يتنكبون ويتشتتون وتتخبطهم الشياطين ويألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون، فتعتدل نظرتك لإيمانك بخبر الغيب.. ولبصيرتك التي ترى بها ما وراء سطور الواقع من بعض حقائق التدبير..
ثم تجد التحليق بك في أمم خلت، عمروها وفتحت لهم رغم خروجهم عن طاعة ربهم، وضاق فيها على أهل الإيمان مثل ما ضاق عليك أو أكثر، ثم فني الظلم وأهله وكانت العاقبة للمتقين..
ثم تجد الوعد بظهور هذا الدين ومن تمسك به، فتنفتح أمامك نوافذ المستقبل، وترى أملا جديدا ينبع من ثقتك بربك، وهي الثقة التي يعززها القرآن بحديثه عن الله تعالى وصفاته وسننه..
أنت أيها الفرد عندما تتمسك بدينك وتشتغل على بناء الوعي في نفسك بقدر استطاعتك ثم تمد يد التأثير ولو يسيرا في محيطك.. أنت قد ترى نفسك قطرة صغيرة، لكن السيل اجتماع القطرات، والأمة التي تتراكم فيها نماذج الثبات الفردية أمة ينبض قلبها ولو بضعف.. ويوشك أن تدب فيها أشكال الحياة ولو بعد حين..
فلا تحبط ولا تخمد
من أعظم فوائد قراءة السيرة شهود علو الهمة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يظهر ذلك من أولوياتهم وتضحياتهم وما عانوه لنشر الإسلام دون كلل، صابرين على الغربة وضيق العيش والجراح، بل كانوا يعدون ذلك فوزا، فيصيح أحدهم وقد طعن: فزت ورب الكعبة!
والجيل اليوم بحاجة لمعايشة هذه السيرة العظيمة، لكي يدرك حياة الوهم الذي يضخ اليوم في الإعلام ووسائل التواصل وبيئات التفاهة، التي تحاول أن توهمه بحتمية النزول للحضيض وأن هذا هو الخيار الوحيد للحياة الطبيعية لا غير!
فإذا شاهد وشهد بقلبه مشاهد السيرة فقه الحياة الحقيقية وأدرك سخافة الوهم، وأنها قصور من زجاج، تقتات على مسايرة الأمعات لضجيج الضخ المفسد للترهات، ومسيرة السيرة والتاريخ تبين له بالسياق والشواهد حقائق الأمور
ثم تلك السيرة لا تكاد تقف مع مشهد من مشاهدها، إلا وتشهد فيه كمال النبي صلى الله عليه وسلم، ودلائل صدقه المعنوية والحسية الكثيرة، فينبني في قلبك رسوخ الإيمان ويتعالى فيه صرح اليقين، حتى تنظر من فوق وتقول للدون:
فمضيت ثمت قلت: لا يعنيني!
اللهم بصرنا والجيل بالحق وارزقنا اتباعه
ينبغي للمؤمن أن يوازن بين فضل مخالطة الناس مع الصبر لنفعهم والنصح لهم، وبين خطر المخالطة التي تعود عليه بالضرر أو لا يصبر معها على الأذى، فالأصل رجحان المخالطة مع النفع، وقد ينعكس الأمر أحيانا، وقد جاء في الحديث (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)
وربما كان انعكاس الحال هذا كثيرا أو غالبا بحسب البيئة والظروف، فيترجح ترك المخالطة، ومع ذلك يمكن أن يتعارض الترك مع قضاء الإنسان حاجاته، فيترخص في المخالطة بقدر حاجته، لأن الشريعة ترخص في الحاجة خاصة في ما كان منعه من باب سد الذريعة والاحتياط، وخاصة في حال عموم البلوى التي يشق معها التحرز من المخالطة
والحاجة هنا ما يقع الحرج والمشقة الشديدة في تركه، وإلا فشهوات النفس لا تنتهي لو فتح لها الباب باسم الحاجة، ولذلك رأينا من يخالط بيئات فيها مظاهر فساد وفتن للأبصار والأسماع، وربما خالط بانشراح وكان الأمر طبيعي لا حرج فيه، وربما ذهب لمكان مع وجود ما هو أخف ضررا منه، والضرورة تقدر بقدرها
في هذه الأحوال ينبغي أن يستعين المؤمن بالعبادة والذكر، وأن يتعاهد قلبه فلا يستهين بالمعاصي ويألف الحرمات فلا يتغير بشهودها، وفي الحديث المشهور بمعناه (فإن لم يستطع فليغيره بقلبه وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)
وليستشعر الإنسان في هذه الحال نظر الله إليه وهو يجاهد نفسه في الثبات غريبا، وليأنس بذلك، ثم بكثرة من معه ممن سار على الدرب من صالحي البشر، وبالملائكة الذين لا يعصون ولا يفترون عن الطاعة
وينبغي له تسلية أهله بهذه المعاني، خاصة الصغار، وليتخير لنفسه ولهم أقل أنواع المخالطة ضررا كلما احتاجوا، وليحيي بيته بوجوده بينهم باعثا الحب والتواصل النافع معهم، مكررا على أسماعهم ما يثبتهم، وليصبر إن بدا له الضجر، ويتذكر أنه راع ومسؤول عن رعيته، وكلما زادت مشقته زاد أجره وحسنت عاقبته، وكل ما هو فيه من عناء هو لحظات سيعقبها راحة الأبد
أحدث التعليقات