كلمات في الثبات

يتعرض المسلم وهو يحاول التمسك بدينه في زماننا لفتن وتحديات، فيلاحظ مثلا التفنن المعاصر في تسويق المعاصي وبهرجتها وربط مصطلحات السعادة وعيش الحياة بها بصورة ممنهجة مكثفة، ويلاحظ التظاهر بالسعادة ممن يتوسعون في مظاهر الاستمتاع الدنيوي أو يبالغون في التعبير عن ذلك وتوثيقه في المقاطع

ويلاحظ من جهة أخرى التشويه الممنهج للتمسك بالدين وربطه بالتخلف عن التطور والحرمان من ” الحياة الطبيعية ” و “السعادة”، أو تصويره بأنه ظاهرة منتهية الصلاحية تجاوزها الزمن، وكل من يدخل فيها سينتكس وينطفئ حماسه أو يصاب بأمراض نفسية.. آلخ الأسطوانة

ثم يأتي الشيطان مع ذلك ليساعد من الداخل شياطين الخارج، فيوسوس للإنسان المتدين بانسداد الأفق وسوداودية الحياة وباليأس من ثباته وإصلاح نفسه، وإذا وقع في شيء من الذنوب وسوس بأنه دليل نفاق وعدم صدق أو استحالة ثبات، إلى أن يدخله في حالة صراع وضيق، وربما وسوس له بالشبهات التي يستحل بها بعض المحرمات ليريح ضميره، ليأخذه في طريق الانحراف الفكري المظلم

وبعد تصوير هذا الحال الذي استوحيته من سؤال فتاة عن توجيه للخلاص أقول :

يجب أن ندرك أن تركيز التفكير على الدنيا وأحوال الناس فيها يضعف عزمنا على الثبات

إننا معاشر المسلمين في رحلة مؤقتة للابتلاء، غايتها أن نعبد الله تعالى ونطيعه، ونحن نفعل ذلك لأنه سبحانه يستحق العبادة وحده، فهو الخالق المتصف بالكمال وهو المنعم، وهو الذي يملكنا، وبيده سعادتنا ومصيرنا إلى جنة أو نار

ونحن في هذه الدنيا في دار عبور لا استقرار، وسيمر كل هؤلاء الناس الذين نشاهد أحوالهم وتمضي معهم الأعمال، فيسعدون سعادة الأبد أو يشقون شقاوة الأبد

ثم الناس ليسوا سواء، فهناك كثر من الله عليهم بالثبات، وقد يمرون بابتلاءات ترفع أجورهم وفيها مصالح وحكم يعلمها خالقهم، فليس وجود بعض من ينتكس شبهة تشكل على وجوب الثبات، ولا وجود ابتلاءات كذلك، بل قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وإذا أحب الله عبدا ابتلاه، وأنه يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب

ومن حيل الشيطان أنه يجعل الإنسان يركز على ما يثبط عن الثبات، فيرى الصورة مضخم فيها السلبيات والانتكاسات، ويغفل عن الأمور الحسنة التي تنشط للاقتداء والثبات، لذا يجب على العبد أن يلزم الأذكار والاستعاذة ويتحصن من كيد الشيطان ويحذره

والحرص الحرص على صحبة صالحة تعين على الخير، فهذا من أعظم أسباب الثبات، وليقرأ المسلم ويتأمل أحوال الأنبياء وأتباعهم بإحسان في كل زمان، فهذا مما يعين وينشط كذلك

وعلينا بالدعاء واللجوء لله أن يشفي صدورنا ويثبت قلوبنا على الخير، مع الاستعاذة من الفتن والابتعاد عن أسبابها بقدر الاستطاعة

ومن المهم أن نقرأ عن أسماء الله الحسنى ونتعلم معانيها ونعايشها، وخير ما يعين على ذلك القرآن الكريم مع تفسير ميسر مثل تيسير الكريم الرحمن للسعدي، وكذلك الكتب المختصرة المتخصصة مثل كتاب (لأنك الله) لعلي الفيفي، ففي ذلك ما يعرف بالله تعالى ويزيد المحبة والأنس به

ومما ينبغى الانتباه له موضوع الشعور بالذنب ولوم النفس، فهو إذا كان بقدر يعين على محاسبة النفس والإنابة لله وتجديد التوبة فهو حسن، لكن إذا صار بحيث يورث القنوط أو المبالغة في جلد النفس واليأس من إصلاحها، ويمنع الفرح بالطاعة التي تحصل، فهذا مدخل للشيطان، يجب سده باستشعار الرجاء وسعة رحمة الله والتركيز على الحسنات لأنها تمحو السيئات، وعدم الوقوع في أسر الماضي، فالعبرة بالخواتيم والتوبة تجب ما قبلها

وأما شهوة المعاصي التي قد تقع لبعض الناس فيشعر بالإحباط من نفسه، فاشتهاء المعاصي قد يحصل، والدنيا فيها زينة وشهوات، والمشكلة الأكبر تكون في أن نفتن بهذه الدنيا ونكون عبيدا لها، أما مجرد الاشتهاء فهو أمر قد يحصل ويكون من باب الابتلاء

لكن على الإنسان أن يحذر من الاسترسال مع الخواطر السيئة، ويحاول صرف تفكيره عن المعاصي إلى الطاعات أو المباحات على الأقل، وعليه أن يشغل نفسه بما ينفعها في دينها ودنياها، لأن الفراغ يساعد على تطور التفكير في الشهوات المحرمة، وباب المباحات واسع جدا، فليأخذ منها ما يعين على العفاف وشغل نفسه عن المحرم

والعبد إذا ترك شهوته لله أورثه الله نورا في قلبه وراحة في نفسه، حتى أنه ربما يجد بعد فترة أنه صار يتقزز من المعاصي ويرغب عنها، وهذا لا يمنع انه تاتيه خواطر ووسواس أحيانا، لكن يصير أقل عرضة للتفكير المسترسل في هذه الأمور

لذلك يا عبد الله ويا أمة الله ينبغي أن يجاهد الإنسان نفسه، ويصبر حتى يحصل هذا الأمر، ولا ييأس مهما طال الوقت، فالله يرى صبرك ويحبه، وثق أنه لا يضيع أجر من صبر له، وسيجد أثر ذلك بإذن الله ويحمده

وليحذر محاولة إرضاء الضمير بالدخول في انحرافات الفكر والشبهات وأهلها، فهذا يوقع في إشكالات أكبر كما هو مشاهد

وأما تلك المظاهر المحرمة التي يسمونها حياة ويحتفلون بها، فالحياة الحقيقية هي التي تكون متفقة مع طبيعة الدنيا وهدف وجودها وغاية خلقنا فيها، وغير ذلك وهم وغفلة يستفيق صاحبها ولو بعد حين ويندم، وقد لا ينفع الندم وقتها

انظر عبد الله لنعمة الطاعة وأنك على الفطرة مع الصالحين والملائكة وسائر المخلوقات التي تطيع الله تعالى، وانظري أمة الله للنهاية الحسنة، ولا تنظري لمن سقطوا وانحرفوا نحو نهايات أخرى، فتغتري بمظاهر مؤقتة مصيرها الزوال

وقد جعل الله لنا متسعا في المباحات، لكن الشيطان يجعلنا نركز على الممنوع مثل ما حصل مع أبينا ادم حين ترك كل الجنة وأغراه بتلك الشجرة

فالواقع الذي يصور في المشاهد أو يوحى به بالتلاعب بالمصطلحات هو وهم شيطاني، والواقع الحقيقي مرتبط بسبب وجودنا وغاية خلقنا وسنن الله تعالى في وجودنا التي لا تتبدل، وأقرأ مثلا قوله تعالى : ﴿ أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلۡجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٞ مِّنَ ٱلنَّاسِۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيۡهِ ٱلۡعَذَابُۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩ ﴾ [الحج – ١۸]

وتأمل في صفات الملائكة وحديث القرآن عن عبادتهم ودعائهم للمؤمنين، تجد أن في الوجود حركة غالبة دؤوبة لا تتوقف، وأن ما يوحى لك بأنه واقع حتمي وتطور نهائي لا رجعة فيه هو مجرد شذوذ ووهم! والتاريخ أيضا شاهد بهذا

وتذكر أنك ستموت وحدك وتدفن وحدك وتسأل وحدك وتحاسب وحدك وتواجه مصيرك وحدك، فالجانب المصيري في حياتك لا يحدده من يعيشون “الحياة الطبيعية” المزعومة، وهي حياة الوهم والشرود عن حقائق الوجود والتمرد على أمر الذي يملك هذا الوجود ويدبره ويحدد مصيره

فلنحذر الغفلة ولنفق من هذا الوهم، ولنترك قليلا تلك المقاطع والصور والزخرفات المصطنعة، وحينها سنجد دلائل الحقائق بادية بأدنى تأمل، ومنثورة في كل مخلوق وكل مشهد، بل في أنفسنا، قال تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ أَوَلَمۡ يَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت – ٥٣]