رسائل التدبر

من عجائب القرآن أنك في مختلف حالاتك الشعوريّة من فرح أو حزن أو خوف أو غيره، تنتبه في قراءته لمعان تقع عليك كأنها تخاطبك مباشرة، وتفجأك كأنها أنزلت لك..

وهكذا مع الأحداث والمواقف.. غير أن كمال الاهتداء بالقرآن يتطلب منك أحوالا كلما حصلتها وارتقيت فيها زدت اهتداء {هدى للمتقين} {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} {لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}

اللهم اهدنا وأصلحنا وأعذنا من الحرمان وأسبابه

‏مهما كانت حاجتك وأيا كان همك: اقرأ ‎القرآن و‎تدبر ستجده يخاطبك ويحرك وجدانك ويشفي أسقامك ويلهمك رشدك وصوابك..إنه أغلى مابين أيدينا فهل قدرناه؟

من تدبر الفاتحة وكيف تتكرر هذه السورة في كل صلاة ، عرف عظم شأن الهداية وشدة اضطرار العبد لها لصلاح دنياه وأخراه..

فينبغي أن يشتد طلب العبد لها بمجاهدة النفس على الإخلاص والاستعانة والدعاء والتأسي بالنبي ﷺ والعلم والعمل وغير ذلك من الأسباب

عندما توفق للوقوف على معاني الآيات التي تقرؤها من كلام أئمة التفسير وغيرهم، تصاب بالدهشة من فيض المعاني الكثيرة الذي يتفجر عليك من كل موضع تقف معه.. كيف تخرج المعاني حين تنظر في ارتباط الجمل ببعضها وترى الغايات التي ترسمها، يأخذ بلبك ذلك العمق والثراء في المعاني مع لطفه وخفائه على من لا يقف ويتدبر 

يجب أن يختلف تعاملنا مع القرآن وإلا فاتنا الكثير الكثير

من أجمل ما في الجنة أنها دار السلام، لا أذى فيها ولا حزن ولا تعب

{جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (33) وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور (34) الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب (35)} [فاطر : 33-35]

{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)} [الطارق : 15-16] 

 تدبر : غاية ما هاهنا في هذه الحياة كيد المخلوق!! والله من ورائهم محيط..

من تدبر الفاتحة وكيف تتكرر هذه السورة في كل صلاة ، عرف عظم شأن الهداية وشدة اضطرار العبد لها لصلاح دنياه وأخراه..

فينبغي أن يشتد طلب العبد لها بمجاهدة النفس على الإخلاص والاستعانة والدعاء والتأسي بالنبي ﷺ والعلم والعمل وغير ذلك من الأسباب

 تدبر في وصف القرآن أهل الصفات المحبوبة لله عز وجل 

تجدها في مواضع متفرقة في القرآن

وتجدها بين مواضيع متنوعة في السورة

لكن لا تخطأ حواسك ذلك الجمال في الوصف والحب الذي تشعر به ينساب مع الكلمات يلامس القلب يستثيره ليشتاق

{ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين (34) الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (35)} [الحج : 34-35]

{ويهدي إليه من ينيب} الشورى ١٣ 

قال الطبري:

” ويوفق للعمل بطاعته, واتباع ما بعث به نبيه عليه الصلاة والسلام من الحق، من أقبل إلى طاعته, وراجع التوبة من معاصيه “.

* أقبل تجد خيرا

* الهداية ليست مرتبطة بالجانب العلمي وحده

{وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور} الحج-٧ 

لا تنس هذه الحقيقة واجعلها نصب عينيك توقظك كل ما غفلت .. سترحل لا محالة، فلتستعد لتسعد !

بقاء هذا الدين في زماننا آية عظيمة من آيات الله ﷻ .. رغم قوة أعدائه المادية الظاهرية، وطغيان عبادة الدنيا وتصيير الإنسان مركزا للحياة بعيدا عن هيمنة الدين، مع ذلك ينتشر ويعلو وتبقى مصادره ويتجدد في الأمة! 

مصداق قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف : 9]

{كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا}
{ فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك}

بين محراب مريم وزكريا سيقت الأرزاق وجاءت البشارة

‏لنكن في غاية الحذر من هذا الحال:{ضَل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} 

راجع مسارك فخط الرجعة في الآخرة مغلق

من عجائب القرآن أنك في مختلف حالاتك الشعوريّة من فرح أو حزن أو خوف أو غيره، تنتبه في قراءته لمعان تقع عليك كأنها تخاطبك مباشرة، وتفجأك كأنها أنزلت لك.. 

وهكذا مع الأحداث والمواقف.. غير أن كمال الاهتداء بالقرآن يتطلب منك أحوالا كلما حصلتها وارتقيت فيها زدت اهتداء {هدى للمتقين} {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} {لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}

اللهم اهدنا وأصلحنا وأعذنا من الحرمان وأسبابه

 تأمل : رب قطرة من الهوى أفسدت بحرا من العلم!
 تدبر كيف جعل الله ﷻ مدار النجاة على خوف مقامه سبحانه ونهي النفس عن الهوى ، فقال تعالى {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى}

من أجمل ما يتميز به  ابن القيم رحمه الله أنه يدور في كتاباته مع معاني الوحي ويستشهد بكثافة بالنصوص، مع العمق في الفهم والعناية الخاصة بإبراز جمال النص وحسن معانيه، بحيث تعيش في حالة انبهار بكمال الإسلام وتشعر أن القلب يحلق مع العقل في آن

هذا هو الخير والله، والبعد عنه والاشتغال بغيره هو الحرمان، وإن تزخرف بالمصطلحات العصرية والبهرجة الثقافية ومضامين الترف الفكري، التي تشغل بالوسائل عن المقاصد

الذي قال سبحانه: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء : 107] هو الذي قال سبحانه: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} [التوبة : 33]

 فالرحمة بالهداية التي هي ضد الغواية..

 والرحمة بدين الحق الذي هو ضد الدين الباطل، الذي هو كل ما سوى الإسلام..

 وظهور هذا الدين على الدين كله رحمة للعالمين..

ومن قال بأن رحمته في أن يساوى بغيره، أو يجعل من يتبعه كمن يكفر به من كل وجه، فقد جعل القرآن عضين، وابتغى فيه سنة الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض

‏{الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور}

‏تشعرك بمحبة الله لأوليائه وعنايته بهم فتتمنى أن تكون منهم.. فمن نال هذه الولاية نال كل خير ولم يضره شيء ، ومن حرمها حرم الخير ولم ينفعه شيء

من يقرأ القرآن تمر عليه في مواضع كثيرة حجة المشركين الداحضة حين يقولون كما حكى الله عنهم {وجدنا آباءنا على أمة} و {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا}، والقرآن يبطل عليهم هذه الحجة التي يتركون بها ما أنزل الله ببيان خوائها {أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون} ، وبيان أن العبرة بالحق والهدى { أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم}

والعجب بعد ذلك أن هناك من يحتج بماضي مجتمع ما ويحاول بث الروح في ما يخالف منه ما أنزل الله، وصحيح أن بعض الناس يحاول تصحيح ما ليس من هذا الماضي مما يقحم فيه، لكن في النهاية حتى لو صح ما صح من ذلك الماضي، فإن العبرة بالهدى لا بالجهل الموروث، وخاب وخسر من يجعل الجهل والانحراف والهوى إمامه ولو كان من فعل آبائه

قال تعالى بعد ذكر قصة نوح عليه السلام:

 

{تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين} [هود : 49]

 تدبر ما في هذه الآية من التسلية العظيمة والتصبير، وتنبه إلى أنك في وقت الغربة تحتاج لذلك

ففي الآية لفت الانتباه إلى دليل عظيم من دلائل النبوة، وهو الإخبار بالغيوب السابقة التي لا سبيل للعلم بتفصيلها إلا من الله ، ومطابقة ما في ذلك الإخبار للكتب السابقة التي ليس له ﷺ ولا لقومه علم تفصيلي بها، والزيادة عليها بتفاصيل ليست في تلك الكتب

ويؤخذ من هذا أن من وسائل التثبيت تذكر دلائل النبوة واستشعارها وقت الشدائد، ليستحضر العبد أنه يصبر على حق قاطع، وصبره لله وبالله سبحانه

كما أن استشعار حصول حسن العاقبة للمتقين يسلي ويثبت كذلك.. فينبغي لكل من وجد الغربة على طريق الحق أن يستشعر عظم الغاية وصدقها وحسن عاقبة الثبات على طريقها

ومن عجائب الآية ربطها الصبر بقوله {فاصبر} بما سبق من العبرة في قصة نوح ودلالة ما تضمنته من غيب على نبوته باستخدام الفاء للتفريع، ثم ارتباط الصبر أيضا بما لحق من حسن العاقبة للمتقين بإنّ التي تفيد التعليل، فبمجرد قوله {فاصبر إنّ} ارتبط الصبر بالأمرين معا بإيجاز وربط فيه يسر وجمال عجيب، مع ما في الآية من امتنان بالتعليم ووعظ بالصبر وتسلية بالقصة وعبرها وحسن العاقبة الموعود بها مع التنويه بأهمية التقوى!

فما أحسن هذا البيان وما أعذبه وما أوجزه وما أجمله

يقول تعالى :{يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} [التوبة : 96]

 

  يقول السعدي : ” فلا ينبغي لكم أيها المؤمنون أن ترضوا عن من لم يرض الله عنه، بل عليكم أن توافقوا ربكم في رضاه وغضبه”.

قلت: فالرب تعالى هو وحده المستحق للعبودية، ومن ذلك أن يخضع العبد له خضوعا تاما حتى يوافقه تمام الموافقة في رضاه وغضبه، وليس هذا للمخلوقين، فقد يرضون وتجب مخالفتهم في ما رضوا عنه والعكس.

وفي الحديث أن أعرابيًّا جاء إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: إن مدحي زينٌ وذمي شين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ذاك الله عز وجل» [الترمذي: 3267]

فينبغي للمسلم أن يطهر قلبه من أن يقع فيه تعظيم لشيء بحيث يدور معه بإطلاق في مدحه أو ذمه أو رضاه أو سخطه أو طاعته

{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)} [الطارق : 15-16] 

 تدبر : غاية ما هاهنا في هذه الحياة كيد المخلوق!! والله من ورائهم محيط..

السبب المتشوش! 

من أجمل ما قرأت للسعدي رحمه الله

في قوله تعالى في قصة موسى : {فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون}

قال رحمه الله : ” فأريناها بعض ما وعدناها به عيانا، ليطمئن بذلك قلبها، ويزداد إيمانها، ولتعلم أنه سيحصل وعد الله في حفظه ورسالته، {ولكن أكثرهم لا يعلمون}، فإذا رأوا السبب متشوشا، شوش ذلك إيمانهم، لعدم علمهم الكامل، أن الله تعالى يجعل المحن الشاقة والعقبات الشاقة، بين يدي الأمور العالية والمطالب الفاضلة.. “

أقول: تأمل ما عبر عنه بتشوش السبب، تجد أن مرادنا كبشر بعد أن ندعو وننتظر الفرج أن نرى سببا صافيا يطمئننا بقدوم الفرج، لكن الأسباب قد تكون متشوشة كما عبر السعدي، وفي تشوشها حكم وألطاف

وفي قصة موسى وغيرها من قصص القرآن ما يوقفنا على هذه الحقيقة، ولعل بالتدبر في ذلك يحصل للنفوس هذا العلم المورث للطمأنينة، لعدم منافاة التشوش الذي يبدو في الأسباب لحقيقة أن وعد الله حق

 

انظروا لملاحظة الإمام السعدي الجميلة في تفسير سورة الشورى، عند قوله تعالى : ﴿فَلِذلِكَ فَادعُ وَاستَقِم كَما أُمِرتَ وَلا تَتَّبِع أَهواءَهُم وَقُل آمَنتُ بِما أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتابٍ وَأُمِرتُ لِأَعدِلَ بَينَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُم لَنا أَعمالُنا وَلَكُم أَعمالُكُم لا حُجَّةَ بَينَنا وَبَينَكُمُ اللَّهُ يَجمَعُ بَينَنا وَإِلَيهِ المَصيرُ﴾
[الشورى: ١٥]

قال رحمه الله : ” ولم يقل (ولا تتبع دينهم)، لأن حقيقة دينهم الذي شرعه الله لهم، هو دين الرسل كلهم، ولكنهم لم يتبعوه، بل اتبعوا أهواءهم..”

وهذا المعنى يذكر ببطلان مقولة الأديان السماوية، فدين الأنبياء واحد وهو الإسلام بمعناه العام الذي يتضمن التسليم لله بما شرع على كل رسول لقومه، حتى ختمت الشرائع بالإسلام بالمعنى الخاص الذي أنزل على سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم للناس أجمعين

كثيرا ما نطلب تعزيز اليقين بوسائل متعددة معرفية وغيرها، لكن هل فكرنا في هذه الخصلة الشريفة؟

أخبر تعالى في آخر سورة المجادلة أنه كتب الإيمان في قلوب من اتصف بصفة عظيمة هي من لوازم الإيمان، فمن أراد أن يكون صاحب يقين لا يتزعزع بالشبهات فليكن من أولئك.. يقول تعالى :

﴿لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون﴾

يقول السعدي رحمه الله : ” وهذا هو الإيمان الذي وجدت ثمرته والمقصود منه، وأهل هذا الوصف هم الذين كتب الله في قلوبهم الإيمان، اي: رسمه وثبّته وغرسه غرسا، لا يتزلزل ولا تؤثر فيه الشبه والشكوك”.

{أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون (115) فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم (116)} [المؤمنون : 115-116]

العاقل لا يمكن أن يجيب بغير الإقرار بتنزيه الله عن غير الحق والحكمة في هذا الخلق، وحاله ومقاله كأولئك {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} [آل عمران : 191]

وحالك أيها الإنسان هو الشاهد لك بعقلك أو سفاهتك، وبصدقك أو كذبك في دعواك معرفة الحق وتصديقه، فاخل بنفسك وتفكر في حالك، وحاسبها قبل ساعة حسابك، فإنما عمرك عارية يوشك أن تسترد

من الطرق النافعة في النهل من علوم القرآن، أن يتصفح الإنسان القرآن وبباله البحث عما يقوله القرآن تجاه موضوع معين، فكلما وجد آية يبدو أنها ذات صلة، رجع لتفسيرها، ثم دون الآية والتفسير أو الاستنباط منها، وهكذا حتى يجتمع له في موضوعه ما يشير إلى طريقة القرآن في التعامل مع ذلك الموضوع، وسيخرج بالتأمل بفوائد كثيرة لم تكن تخطر له على بال، ومنها ما يجد في قلبه من تعظيم القرآن وتأثيره في نفسه

ربما يدخل في هذا تمثيلا وإن كان لم ينبني على نفس فكرة الاستقراء الواسع:
https://t.me/ttangawi/602
https://t.me/ttangawi/1179
https://t.me/ttangawi/977

أعظم الظلم في ميزان الوحي

قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ۚ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة : 22]

وهذا المعنى تشهد الفطر والعقول السليمة بحسنه، فالرب تعالى له أعظم الحق لكماله وإنعامه، فجحد حقه والإعراض عن آياته أعظم ظلم وجرم

فالله تعالى أرسل لهذا الظالم من ذكره بآيات ربه، الذي يريد سبحانه تربيته، وتكميل نعمته على أيدي رسله، تأمره، وتذكره مصالحه الدينية والدنيوية، وتنهاه عن مضاره الدينية والدنيوية، التي تقتضي أن يقابلها بالإيمان والتسليم، والانقياد والشكر..

فقابلها هذا الظالم بضد ما ينبغي، فلم يؤمن بها، ولا اتبعها، بل أعرض عنها وتركها وراء ظهره، فهذا من أكبر المجرمين، الذين يستحقون شديد النقمة، ولهذا قال: { إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ }

انتهى عن السعدي بتصرف

فتأمل هذا الميزان وتأمل كيف استبدل عند كثير من أهل العصر بموازين مائلة، وفلسفات خاوية، ينصب فيها العبد المربوب صاحب الحق الأعظم، ومركز الوجود، فمن أحسن للإنسان عظم ولو كان أشد الناس كفرا، بل ربما ترحموا عليه واستكثروا عليه الحرمان من الجنة، ولا عجب إذا مالت الموازين وقست القلوب وغاب فيها إبصار حقائق الأمور، ونسبت نعمة الله لبشر مسخرين، وكانت الدنيا غاية المراد ونسيت الآخرة، فأي قلب يحيى وعقل يعدل بعد ذلك!

إضاءة سابقة ذات صلة:
https://t.me/ttangawi/408

للقرآن من العذوبة في نفس السامع والرونق والبهجة مايتميز به عن سائر الكلام حتى يصنع صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس
جاء القرآن بأحسن الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنا أصح المعاني : من توحيد لله وحمد وتنزيه، ودعاء لطاعته وبيان لمنهاج عبادته، مودعا أخبار القرون الماضية، منبئا عن الكوائن المستقبلية، جامعا في ذلك الحجة والمحتج له، والدليل والمدلول عليه، من تحليل تتحريم ووعظ وتقويم وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساوئها ، واضعا كل شيء منها موضعه الذي لايرى أولى منه

قال الخطابي: ومعلوم أن الإتيان بهذه الأمور والجمع بين شتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قوى البشر.. فانقطع الخلق دونه…

﴿ أَلَمۡ يَجِدۡكَ يَتِيمٗا فَـَٔاوَىٰ ﴾ [الضحى – ٦]

ما أجمل تطمين الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقد ذكره بما سبق من عنايته وساقه – كما قال ابن عاشور – ” مساق الدليل على تحقق الوعد، أي هو وعد جار على سنن ما سبق من عناية الله بك من مبدإ نشأتك ولطفه في الشدائد باطراد بحيث لا يحتمل أن يكون ذلك من قبيل الصدف لأن شأن الصدف أن لا تتكرر فقد علم أن اطراد ذلك مراد لله تعالى.

والمقصود من هذا إيقاع اليقين في قلوب المشركين بأن ما وعده الله به محقق الوقوع قياساً على ما ذكره به من ملازمة لطفه به فيما مضى وهم لا يجهلون ذلك عسى أن يقلعوا عن العناد ويُسرعوا إلى الإيمان وإلا فإن ذلك مساءة تبقى في نفوسهم وأشباح رعب تخالج خواطرهم. ويحصل مع هذا المقصود امتنان على النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية لاطمئنان نفسه بوعد الله تعالى إياه “. انتهى المقصود من كلامه

ولعل من حسن الظن بالله أن ننظر فيما سبق من حياتنا ومافيها من ألطاف ونعم، فنرجو بذلك ونستأنس أن يديم الله علينا عادته من الرحمة والكرم والتجاوز، وإذا أصبنا بشيء نكرهه، فلنذكر ذلك الظن الحسن ونستدل بما سبق على أن ما يجري فيه لطف وحسن عاقبة.. مع دوام الحذر أيضا من عاقبة ما يغضب الله تعالى ويبعد عن مرضاته، فليس للواحد منا عصمة، لكنا نرجو ونخاف، فلا يستبد بنا يأس ولا ينقطع عنا طمع، ولا يقصم ظهورنا أمن فنتمادى في سرف

والله الهادي وعليه التكلان

صفة اللطف التي تجلت في قصة يوسف عليه السلام لا تنفك عن أقدار الله في كل زمان ومكان، ولو استطاع الواحد منا أن يرتفع عن تفاعلات اللحظة ويبصر كامل الصورة لأدرك ذلك.. ولسنا بحاجة لذلك إن وجد الإيمان والتوكل

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

جاء القرآن موعظة يذكر الإنسان بحقيقته وحقيقة الدنيا، مخبرا عن أحوال الناس في الآخرة، معرفا الإنسان بربه ليحبه ويعظمه، مذكرا له بحقه مخوفا عقابه مرجيا ثوابه، قاصا له أحسن القصص التي تكشف أحوال أهل الصراط المستقيم ومآلاتهم، وأحوال أهل السبل المغضوب عليهم والضالين ومآلاتهم، وفي ذلك وغيره ما يكفي لصلاح القلب ويقظته من كل غفلة

قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦)﴾.

يقول الطبري :

يعني بذلك: وبشِّرْ، يا محمد – صلى الله عليه وسلم – ، الصابرين الذين يعلَمون أن جميعَ ما بهم مِن نعمةٍ فمنِّي، فيُقرُّون بعبودتي، ويوحِّدونَني بالرُّبوبيةِ، ويصدِّقون بالمعادِ والرجوعِ إليَّ، فيَستسْلِمون لقضائِي، ويَرجُون ثَوابِي، ويخافون عقابِي، ويقولون – عندَ امتحانِي إيَّاهم ببعضِ مِحَنِي، وابتلائِي إيَّاهم بما وعَدتُهم أن أبتلِيَهم به من الخوفِ والجوعِ ونقصٍ من الأموالِ والأنفسِ والثمراتِ وغيرِ ذلك من المصائبِ التي أنا مُمْتَحِنُهم بها -:

إنّا مماليكُ ربنا ومَعْبودِنا أحياءً ونحنُ عبيدُه، وإنّا إليه بعدَ مَماتِنا صائرونَ. تسليمًا لقضائِي ورضًا بأحكامِي.

يقول تعالى : ﴿ بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ فَلَهُۥٓ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ﴾ [البقرة – ١١٢]

قال الطبري :

” وَخَصَّ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ بِالْخَبَرِ عَمَّنْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهه لِلَّهِ } بِإِسْلَامِ وَجْهه لَهُ دُون سَائِر جَوَارِحه ; لِأَنَّ أَكْرَم أَعْضَاء ابْن آدَم وَجَوَارِحه وَجْهه ، وَهُوَ أَعْظَمهَا عَلَيْهِ حُرْمَة وَحَقًّا ، فَإِذَا خَضَعَ لِشَيْءِ وَجْهه الَّذِي هُوَ أَكْرَم أَجْزَاء جَسَده عَلَيْهِ فَغَيْره مِنْ أَجْزَاء جَسَده أَحْرَى أَنْ يَكُون أَخْضَع لَهُ ” انتهى

وفي هذا فضل السجود الذي يوضع فيه الوجه على الأرض، ومعه بقية الأعظم السبع، وإذا كان ذلك بصدق وإحسان كان معه الخضوع لله في سائر الأقوال والأعمال، بحيث يكون مذعنا منقادا مستسلما، لا معارضا معاندا مستكبرا، فلهذا عند مولاه الوعد بالأجر والأمن من الخوف والحزن.. نسأل الله من فضله