رسائل العبودية
لتحقق التوحيد اعقد قلبك على:
{وما بكم من نعمة فمن الله} {ما أصابك من حسنة فمن الله} {وأن الفضل بيد الله} {الحمد لله} {بيدك الخير}
وتأمل كيف يخلقك ويربيك بنعمه ويقدر لك ويلطف بك وينعم عليك ويصرف السوء عنك.. أبعد ذلك يسكن في قلبك التلهف والتعلق بغيره ..؟! ما أقبح ذلك
يا مشتت القلب بين هنا وهناك، تلهث خلف كل سراب.. يغرك حدوث أسماء ورسوم، والأمر قد قضي قبل والرزق مقسوم والأجل محتوم.. أفق وانصب لمن بيده الأمر كله، والتفت للباقي وارم ورائك الفاني
أيها الموحد..لينم غيرك وقلبه مشتت بين أمثاله من العبيد.. وليهنك أن تنام أنت قرير العين وقلبك معلق بالله، موقن بحسن تدبيره وتفرده بالأمر والملك
أول درجة يضع العبد بها قدمه في مقام التوكل : معرفة الرب وصفاته من قدرته وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته (مدارج السالكين لابن القيم بتصرف)
من أهم مايقوم عليه التوكل هذا العلم بصفات الله والثقة به وحسن الظن، وأن يفوض أمره إليه حقا راضيا بما يختاره له، وأن يعمل الأسباب دون أن يتعلق قلبه بها
إضاءة :
يقول ابن القيم عن الصحابة: توكلهم كان في فتح بصائر القلوب وأن يعبد الله وحده في..البلاد..وأن تشرق شموس الدين الحق على قلوب العباد
اعلم أن الله سبحانه متصف بصفات الكمال، ومنها ماتضمنته أسماؤه الحسنى، فأنزل حوائجك به وحده وأنت موقن بأنه سميع مجيب قريب رحيم كريم واسع جواد..
وإياك أن تظن بالله ظن السوء وتشبهه بالمخلوقين ممن لايدخل عليهم إلا بالوسائط ويطردون الضعفاء، فبأس الظن وبأس القياس ظن {الظانين بالله ظن السوء}، فظن السوء هذا أصل لانحراف المشركين ممن يمم وجهه وعلق قلبه بغير الله، جهلا منه بكمال صفاته وسعة فضله ورحمته
واعلم أن إجابته واسعة لاتحد بأوليائه، فهو رب العالمين لارب الأولياء فقط، ورحمته وسعت كل شيء، وقد وعد بكتابه بإجابة مطلق الداعين {أجيب دعوة الداع إذا دعان..}، وخص المضطرين {أمن يجيب المضطر إذا دعاه..}، وفي قصة سليمان أن نملة استسقت فقال عليه السلام: قد سقيتم بدعوة غيركم!
الإكثار من الذكر حصن للمسلم من الشر، وإذا كان مع حضور القلب واستشعار محبة الله وعظمته فإنه يورث الطمأنينة ويغذي التوكل ويفتح باب الانشراح
وهذه الأيام العشر مواسم للذكر، نسأل الله أن يوفقنا لاغتنامها
لا تشغل نفسك هل شعرت بلذة الصلاة أو لم تشعر، بكيت أو لم تبك، بل اشغل نفسك بمراقبة الله سبحانه وأنك في مقامك تقوم له بالعبودية وتتقرب له وتعظمه وتحبه وتحمده بكماله وإنعامه، وتشعر بعظمة كلامه وجماله، وهذه الأحوال إن قامت بك سيتبعها كل شيء، فالله تعالى مقصودك ومرادك، فلا تنشغل بالتوابع عنه، فالتابع تبع لا يحتاج إلى أن يتكلف
ثم اعلم أنك إذا جردت القصد له تعبدا فيلزم أن تصبر لما يختاره، فقد تحب الخشوع بلا كلفة فيختار لك عبودية المجاهدة ويبتليك بالشواغل وفقد اللذة ونحوها، حتى تجرد قصدك له وتصطبر لعبادته، ثم سيفيض عليك بلطفه ورحمته ولو بعد حين، فضلا عما أخر لعباده في الآخرة وهو خير وأبقى، فاشتغل بما عليك، لا بما لك فهو عنده سبحانه وكفى به وليا
قضيتك الحياة لله
تأمل محور الرسالات.. {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}
إنها عبادة الله بكل معانيها والكفر بالطاغوت بكل معانيه {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}
إنها عبادة الله بالمحبة والتعظيم المتغذّيان بمعرفته بالفطرة والوحي، وبمشاعر القلب خوفا ورجاء ورغبة ورهبة وتسليما، وبكل جارحة وقول يحبه تبارك وتعالى
ولأنها عبادة لا أي محبة، ولأنه الأحد، فإنك تأبى أن يجعل له ند في عبادته وأسمائه وصفاته، وتراه أعظم الظلم، فتوالي وتعادي بذلك
فإن فقهت ذلك انضبطت مواقفك وحركاته وسكناتك حتى يكون محياك ومماتك لله، فتُخلِص وتَخلُص فلا يسلط عليك شيطان وتحرق بنورك الظلمات
من نور البصيرة ألا تغفل عن تدبير الله لحياتك وأنه وليك والموفق لك،وهذا ينعكس عليك قوة في قلبك بتوكلك على ربك وبذل السبب الصحيح وترك ماحرمه
إذا استنرت بهذه الحقائق صرت ترى الأمر الذي فيه لذة عاجلة وعاقبة سيئة ضارا لك، وماقد يتضمن تضحية عاجلة وعاقبة حميدة نافعا لك، فتستقيم لله
ومن هنا نعلم أن الوقوع في المعاصي إنما هو عن غفلة عن الله تعالى وصفاته، ولذلك كلما استنار قلبك بالعلم به وبصفاته وكلما كنت أكثر ذكرا عصمت
فمن أعظم مايعين على التوبة إذا أن تتدبر كلام الله وتكثر ذكره والتفكر في خلقه، ثم ينعكس ذلك عملا صالحا وقلبا سليما همته عالية تعينك على الحق
هل استشعرت أنك تستطيع قول شيء يحبه الله؟ فتكرره مرارا لمعرفتك أنه يحبه.. تكرره شوقا وتلهج به إرضاء له، وأنت تعلم بخبر الصادق أنه يحبه
قال صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيح – : (كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)
لابد من إعادة ضبط المسار باستمرار وفق الهدف {إياك نعبد وإياك نستعين} وبدلا من البحث عن مكان في الأضواء والدوران حول الذات لابد من المضي على الصراط المستقيم قدما نحو النعيم مع السالكين
آية قرآنية تتأثر بها
{الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور}
تشعرك بمحبة الله لأوليائه وعنايته بهم فتتمنى أن تكون منهم.. فمن نال هذه الولاية نال كل خير ولم يضره شيء ، ومن حرمها حرم الخير ولم ينفعه شيء
الإيمان إن خالطت بشاشته القلب والطمأنينة إذا سقته بماء السعادة والهناء فلا قوة ترده لدركات الظلام وضيق البعد عن الله سبحانه
ما أجمل دعاء زكريا واستعطافه ربه وما أروع بلاغة القرآن في حكايته، وما أجمل الإجابة ومقابلة الاستعطاف بالعطف: {وحنانا من لدنا}
يعلمنا تبارك وتعالى في مطلع سورة مريم أدب الدعاء وحسن مقام الافتقار وسرعة إجابته تعالى لمن التجيء لجنابه وسرعة عطفه على من استعطفه وحنوه عليه
كلما ابتعد الإنسان عن غاية وجوده شعر بالألم، فإما أن يرجع، أو أن يلهي نفسه ويشغلها حتى تنتهي رحلته بعيدا عن السعادة
وحتى لو أنكر غاية وجوده تمام الإنكار، فلن يستطيع إنكار ألم العبثية والعدمية، وسيبقى سؤال واحد على الأقل يضعه في مواجهة التناقض : لماذا أشعر بهذا الألم؟ لماذا لا ينعدم هو أيضا؟ ما الذي يجعل هذه القضية حاضرة في الأعماق لا تنفك عن النفس؟
حينها سيعود للفطرة أو يستمر في المكابرة ويلازم الشقاء
{لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا (172) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (173)} [النساء : 172-173]
من الخطأ أن ننظر لأنفسنا على أننا وصلنا لحالة من الإيمان ترتبط بذوانتا بشكل مستقر، فالإيمان يرتبط بعطايا الكريم سبحانه ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية..
ولذا من الممكن أن تؤثر الغفلة عن الذكر والتقصير في الطاعة في الرجل الذي يحسب من الصالحين، فيعود هشا قابلا للكسر أمام المحن، وهو هو في عين نفسه وأعين الناس، لأن القضية لا ترتبط به هو كذات مجردة، بل بما يقوم به من الإيمان والطاعة، وهي أمور يمكن أن تتغير..
يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك..
يقول تعالى :{يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} [التوبة : 96]
يقول السعدي : ” فلا ينبغي لكم أيها المؤمنون أن ترضوا عن من لم يرض الله عنه، بل عليكم أن توافقوا ربكم في رضاه وغضبه”.
قلت: فالرب تعالى هو وحده المستحق للعبودية، ومن ذلك أن يخضع العبد له خضوعا تاما حتى يوافقه تمام الموافقة في رضاه وغضبه، وليس هذا للمخلوقين، فقد يرضون وتجب مخالفتهم في ما رضوا عنه والعكس.
وفي الحديث أن أعرابيًّا جاء إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: إن مدحي زينٌ وذمي شين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ذاك الله عز وجل» [الترمذي: 3267]
فينبغي للمسلم أن يطهر قلبه من أن يقع فيه تعظيم لشيء بحيث يدور معه بإطلاق في مدحه أو ذمه أو رضاه أو سخطه أو طاعته
الإسلام .. الحمد لله الذي جعلنا من أهله
لولاه لغابت المعاني السامية من الحياة وأجدبت أراضينا ولم تسق بماء الإيمان الذي يشرح الصدور
{لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}
عبد مخلص معظم لربه منيب..
أيها المسلم تأمل في معنى كلمة الإسلام، تجد أن صراعا مريرا يتوجه لهذا المعنى، ليبقى كل شيء ينسب للإسلام، إلا أن يكون تسليما للنفس لله وحده، بالتصديق التام للوحي في كل ما أخبر، والتسليم والتحكيم التام الخالص له في كل ما أمر، وما جوهر الإسلام إلا أن يكون الدين كله لله
لا يخدعونك بكلام حق يراد به باطل، فكل ما جاء به الدين روحه هذا الأصل، فإن بعثت فيه الروح نفع صاحبه، وإلا كان في حكم الأموات، فلا الأخلاق ولا القيم التي تسمى إنسانية تمثل حقيقة الإسلام إذا جردت من هذه الروح..
بل قد يتحول التركيز على هذه الجوانب – مع أهميتها – لوسيلة للصد عن حقيقة الإسلام، فتجد الحديث عن الإسلام يحضر فيه كل معنى فيه تحقيق لحقوق الإنسان واستمتاعه بالدنيا، ثم يغيب كل معنى يتعلق بحق الله أساس الوجود والاستعداد للآخرة وأنها الحياة الحقيقية
﴿ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور﴾
[لقمان: ٢٢]
تأمل كلمات الأذكار وأدعيتها النافعة الجامعة وما تتضمن من مطالب التوفيق والحفظ والأمان والخير.. ثم سائل نفسك : إذا كنا نعتقد أن الدعاء والذكر أسباب للتوفيق وصلاح الأحوال في الدارين، فلماذا لا نحرص عليها كما نحرص على الأسباب الدنيوية؟ هنا باب للتفكر في حال العبد ومحاسبته لنفسه.. أهو ضعف إيمان أو غفلة شيطان؟ والمهم أن تأتي بعد الفكرة اليقظة فيعاود السير وينشط
من الفوائد المهمة التي استفدتها من أحد الفضلاء، أن الإنسان عليه أن يخلو بنفسه ويستشعر حقيقة أن كل ما حوله قد يزول، من أسرة وأموال وعلاقات وغير ذلك، وأن نفسه ليس لها إلا الله الباقي وغيره سبحانه فان
هنا يستعيد الإنسان حقيقة أنه سيكون في البرزخ مع عمله وسيبعث ويحاسب وحده، وسيفر منه أحبابه في ذلك اليوم
يشعر الإنسان بأهمية أن يكون له تعبد لربه يخلو فيه معه، ويأنس به سبحانه، ويستشعر أن الله وحده المستحق لأن يصرف له غاية المحبة والتعظيم ويجعل حياته كلها له
كل شي يمكن الاستغناء عنه مهما بدا عزيزا، لكن لا غنى لك عن الله تعالى.. والله تعالى هو الولي، وإذا تولاك فقد حزت كل شيء
هي معان كثيرة لو تفكر فيها الإنسان واستطرد، ولعل هذه الأيام والليالي فرصة ثمينة لمثل ذلك.. رزقنا الله وإياكم العلم به والعمل الذي يرضيه
وصلى الله على نبينا محمد
من الحقائق التي يهز استشعارها القلب فرحا: أن رضا الله غاية تدرك، وأنه قريب مجيب، وأن محبته للعبد تنال، وأنه فتح باب التوبة على مصراعيه، وأكد على المسرفين خاصة فضلا عن غيرهم ألا يقنطوا من رحمته! بل لما ذكر أشنع المقالات وهي قول النصارى أنه ثالث ثلاثة قال بعد بيان كفرهم وتوعدهم : {أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه}
وقد يكون بينك وبين هذه المحبة عمل صالح تبتغي به وجهه أو كلمة تقولها من رضاه، بل قد يكون ذلك بشعور في قلبك من تعظيمه ومحبته وحسن للظن به وشوق إليه ورجاء لما عنده وخوف من غضبه وعقابه
وهذه الحقيقة إذا حضرت في قلبك حركت مشاعرك وهيجتك للقرب وأسبابه، وهانت عليك الصعاب إن وجدت، مع أنه مع كرم الله تعالى يتيسر الطريق ويعان عليه الصادق، ولو عرض فيه ما عرض مما يزيد القرب ويرفع المنزلة
في القرب من الله الولي الحميد كل العوض، ومهما بدا لك في غيره عوض فليس ذلك بكاف ولا شاف على الكمال، فكل ناقص تنزل به حاجتك وتطلب فيه عوضك سينعكس نقصه على حاجتك، فلا تجد فيه شفاءك على التمام مما فقدت..
كلهم يمرض أو يُعرض، يموت فيفوت، فلا تعلق قلبك ولا تطلب تمام عوضك وشفاء أجراحك عندهم، واجعل قلبك نزيلا بباب المعطي الوهاب، الحي القيوم، الرحمن الرحيم، الذي يتجاوز عن المسيء ويغفر ويستر العيوب..
ربنا لا تحرمنا فضلك واغننا بفضلك عن سواك
ألطاف الله دوما موجودة.. لكن بعض الأبصار عن بعضها محجوبة
ارتبط دعاء الكرب بترديد “لا إله إلا الله”، ودعا بها يونس عليه السلام فنجاه الله من الغم
لعل من أوجه ارتباطها بالكرب أنها تذكر النفس أنها أعظم مغنم وأنها حاصلة لها مهما كانت مكروبة، فقد اتصلت بالله تعالى حبا وتعظيما، واجتمعت عليه، وهو الرب سبحانه المتصف بالحياة والقيومية والسمع والإجابة والولاية للمؤمنين والكفاية لهم
هذا المغنم لا يوجد أعظم من الظفر به، ولا يوجد فقد منذ خلقت البرية إلى قيام الساعة أعظم من فقده، فمهما كان فيك من البلاء فهو حسبك، مع ما فيه من معنى التأله لله وحده واللجوء له، ونعم الوكيل سبحانه
ولو تأمل الإنسان في كل ما يمكن أن يحصل له لوجد أنه لا توجد قوة مخلوقة يمكنها أن تنزع ذلك من قلب من اعتقده واعتصم به، {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}
فنسأل الله تحقيقها والثبات عليها حتى نلقاه
الارتفاع والنظر من الأعلى لحال البشرية في مختلف صور ابتعادها عن نور الوحي ماضيا وحاضرا، ثم الغوص بالتأمل في بعض تفاصيل الظلام والتيه والوحشة والألم الناتج، كل ذلك يقود لنتيجة واحدة قطعية تهز الوجدان :
الحياة بدون الإيمان بالله سبحانه وتعالى مظلمة مخيفة
هذه الحياة، فما بالك بالموت وما بعده!
بعض أحوال القلب في عبوديته لله يصعب التعبير عنها، لا سيما في الشدائد، فهي محل لانكسار القلب ولجئه لله ورجائه ما عنده، واستشعار ربوبيته وقيوميته وقدرته ونفاذ أمره وقهره لخلقه وعلوه عليهم، ثم مع ذلك يستشعر القلب فاقته له وحبه وإجلاله، ثم ربما نشأ من ذلك تلذذ وراحة وانشراح، فيمتزج في القلب من الأحوال العجيبة ما لا يمكن التعبير عنه بالكلام..
فسبحان الذي يبتلي ليلج عبده في أحوال علية شريفة قد لا تتهيؤ إلا بذلك، مع ما ينفتح فيها من المعارف وحسن التفكر والبصيرة والحكمة
فاللهم نسألك عافيتك وأن تدخلنا في رحمتك ولا تحرمنا بذنوبنا وتقصيرنا، وأن تعاملنا بفضلك فنجوز به إلى كرامتك وولايتك
كثير من الخيرات تفوت الإنسان بسبب عدم تجاوزه عقبة البداية في التعبد، فالتعبد أيا كان يبدأ في كثير من الأحيان بعقبة شعورية من الثقل، إذا تجاوزتها فتح لك باب على مساحات متعددة من الجمال، تحمد على إثرها أنك لم تقف
تجاوزك لتلك العقبة بشيء من المجاهدة، يمكنك من استشعار نظر الله إليك وأنت في عمل يرضيه، فتغشاك مهابته، ويمكنك من استشعار نعمته عليك بأن وفقك لهذا العمل فتغشاك محبته، ويمكنك من استشعار حسن العاقبة وعظم الأجر فتشعر بالرجاء..
وهكذا تتابع عليك أحوال قلبية هي في ذاتها عبادات، وتدور العجلة فيطير القلب بأحوال تخرج به من ضيق الدنيا وسجنها إلى سماوات الطمأنينة والفرح بالله تعالى
والإنسان إذا أكرمه الله تعالى بالتوفيق فعليه بالشكر وزيادة الاستثمار، وعليه أن يحذر وهما كبيرا، وهو أن هذا التوفيق محصور في مواسم معينة واوقات استثنائية، فالحقيقة هي أن أبواب الذكر والصلاة والإحسان للخلق وغيرها من وجوه العبادات مشرعة في كل الأوقات، فيتقلب بينها الإنسان، ويرتقي حتى يحول مباحاته إلى نوع منها بحسن القصد والاحتساب
نعم ستقع الغفلة أحيانا، ولكن هذا أيضا يوجب له الانكسار والافتقار وتجديد التوبة ومعرفة النعمة بشهود الفرق بين حال الغفلة وضعف النفس فيها، وألا مخرج لها ولا مفر من الالتجاء والانطراح بعتبات العودة، والتي تبقى دائما مراقي للفرح بالإنابة، وتلك قصة أخرى تشع فيها ألوان الكرم الزاهية
نسأل الله أن ييسر لنا اللحاق بركب المحبين، ولا يجعل حظنا منه الكلام عنه من بعيد..
الانتساب لله بالعبودية والرجوع إلى الله حقيقة حتمية وضرورة فطرية، وهي واقع ومستقبل..
فالواقع أنه لا مفر للنفس من العودة إليه بالتقرب والتوبة مرة بعد مرة، ولا مخرج من المضائق ولا فرج للكروب إلا به سبحانه، ولا طمأنينة ولا راحة من مشاق الدنيا إلا بذلك.. ولذلك كانت الصلاة راحة
وأما المستقبل فسنلقاه سبحانه في الآخرة، ونرجو أن يكون لقاء الفرح والستر والعفو، ولا تسأل عما بعد ذلك، { فَمن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ ﴾
أعظم الظلم في ميزان الوحي
قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ۚ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة : 22]
وهذا المعنى تشهد الفطر والعقول السليمة بحسنه، فالرب تعالى له أعظم الحق لكماله وإنعامه، فجحد حقه والإعراض عن آياته أعظم ظلم وجرم
فالله تعالى أرسل لهذا الظالم من ذكره بآيات ربه، الذي يريد سبحانه تربيته، وتكميل نعمته على أيدي رسله، تأمره، وتذكره مصالحه الدينية والدنيوية، وتنهاه عن مضاره الدينية والدنيوية، التي تقتضي أن يقابلها بالإيمان والتسليم، والانقياد والشكر..
فقابلها هذا الظالم بضد ما ينبغي، فلم يؤمن بها، ولا اتبعها، بل أعرض عنها وتركها وراء ظهره، فهذا من أكبر المجرمين، الذين يستحقون شديد النقمة، ولهذا قال: { إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ }
انتهى عن السعدي بتصرف
فتأمل هذا الميزان وتأمل كيف استبدل عند كثير من أهل العصر بموازين مائلة، وفلسفات خاوية، ينصب فيها العبد المربوب صاحب الحق الأعظم، ومركز الوجود، فمن أحسن للإنسان عظم ولو كان أشد الناس كفرا، بل ربما ترحموا عليه واستكثروا عليه الحرمان من الجنة، ولا عجب إذا مالت الموازين وقست القلوب وغاب فيها إبصار حقائق الأمور، ونسبت نعمة الله لبشر مسخرين، وكانت الدنيا غاية المراد ونسيت الآخرة، فأي قلب يحيى وعقل يعدل بعد ذلك!
إضاءة سابقة ذات صلة:
https://t.me/ttangawi/408
حالات السعادة واللذات يصعب أن تدوم مع تغيرات الحياة وفق السنن، فهي بين إقبال وإدبار، ولكن العبد التقي الذي يأنس بربه لا يحرمه ذلك الأنس شيء، بل ربما زاد أنسه بالله بالبلاء!
ولئن كان بقاء المشاعر مستقرة مع الصدمات الشديدة صعب جدا، فالأنس بالله واستشعار معيته وتدبيره أقواها وأبقاها، إن اتصل بالعبد المدد، لذا كان أحوج ما يكون لدعاء {إياك نعبد وإياك نستعين}
لو لم يكن في حسن الظن بالله إلا راحة القلب ونعيمه بالثقة بالله لكفى، ومع ذلك يحصل للعبد من مشاهدة اللطف والحكمة ما يغيب عن من حجبه سوء الظن عن الخير
حسن الظن سر التوكل، والشيطان حريص على التقنيط وصرف العبد عن شهود كمال الله عز وجل ورحمته ولطفه بمشاهدة تقصيره في جنب الله، مع أن ذلك التقصير مع الانكسار والاعتراف بالذنب يرجى معه الجبر والرحمة
محاسبة العبد نفسه مطلب، لكن ليس من الفقه أن تحضر تلك المحاسبة في صيغة القنوط والظن بالله أنه ينزل الحرمان في مقام الانكسار والفاقة إليه، فهذا خلاف عادته التي امتن بها سبحانه، فالله بر رحيم، ونعمه وأقداره شاهدة
صفات الربوبية ليست خاصة بالصالحين، فالله هو رب العالمين، وكل خلقه عالم، وأنا وأنت من ذلك العالم
الابتلاء بالأمور المحزنة يستثير في النفس عبودية الانكسار لله وصدق اللجوء له، وهو أمر ينتبه له كثير من الناس، وقد يضل عنه بعضهم لاشتغال قلبه بالحزن والحسرة، أو اليأس وسوء الظن والسخط والعياذ بالله
والغفلة أشد في حال الابتلاء بالخير ووفور النعم واللحظات السعيدة، فهي توجب عبودية الشكر وحمد الله تعالى واستشعار فضله وإحسانه، فتنبعث النفس للتعبد له ومحبته، وما أكثر ما تقع الغفلة عن ذلك تشاغلا بالمشاعر العالية التي تحضر في اللحظات السعيدة، فينهمك الإنسان في التلذذ بالنعم، ويغفل عن لذة استشعار كونها نعما وفضلا ورحمة فيفرح بها فرح المحب لربه الشاكر له، ويحدث لها عبادات قلبية وقولية وعملية، إذا خلطها بتلك اللحظات السعيدة أوجبت له مزيد فرح، وأحضرته بعدا آخر من نعيم القلب
وبالجمع بين المقامين يكون الإيمان وكمال العبودية لله، فالإيمان نصفه صبر ونصفه شكر، ولن يخلو عبد من أحوال توجب هذا وهذا
ولعل التذكير بهذه المعاني مناسب للإجازات خاصة لمن تفضل الله تعالى عليه بفراغ وصحة ومال فوسع على نفسه وأهله بالمباح، فهو أشد حاجة للتنبه لهذا المعنى، وأن لله عليه عبودية في السراء كما له عليه عبودية في الضراء
نسأل الله أن يمن على جميع المسلمين بمزيد فضله ورحمته، وأن يفرج عن كل مبتلى ومحزون، ويشفي كل مريض ويأوي كل مشرد وينصر كل مظلوم
أيام العشر يعظم فيها الله تعالى.. الله الأحد الذي ليس كمثله شيء
كل شيء يدور حول هذا المعنى من تلبية وتكبير وتهليل وتحميد وذبح ودعاء وعبادات قلبية وقولية وفعلية
إذا لم يدرك القلب هذا المعنى فقد أدرك التعب والنصب وأضاع المقصد، أو صار إلى ما يشبه الفعاليات الاجتماعية الخاوية من مقاصد الدين العظيمة
يوم عرفة يوم أكمل الله فيه الدين.. الشعور اليوم بهذا الفضل والامتنان لله وحده به من أعظم بواعث الخير في النفس، وهو كذلك من أسباب راحتها من التشتت في أودية الدنيا أو التحسر على ما فات منها
عظم الله لنا ولكم الأجور وتقبل الدعوات ورحم موتانا وموتاكم وفرج عن مبتلانا ومبتلاكم ونصر المستضعفين من المسلمين في كل مكان
آمين
يقولون : لا داعي للقلق إنها ظاهرة طبيعية!
فنقول : وهل أكثر بلايا الناس إلا بأمور طبيعية؟!
صنع الذي يدبر الأمر سبحانه هو كل هذا الخلق والأقدار التي تحدث، سواء كانت جارية على السنن الطبيعية المعتادة أو كانت خارقة، كلها بيد الله تعالى وبحكمته وتقديره
والعبد يخاف سخطه ويرى في التغيرات حوله آيات وعظات.. وفي الحديث : من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل (الإدلاج: السير أول الليل)
القلق الزائد لا يصيب من يعلم أن الأمر لله وأن الدنيا معبر للآخرة، وسيصيب من يرى أن “طبيعية” بعض الأحداث لا تستدعي القلق، لأنه تطمين لا يستند لقوة وتدبير من بيده الملك سبحانه، فكيف إذا كان مع ذلك لا يرجو الآخرة، فكل خوف مرتبط بضياع مصيره كاملا لا بخسارة دنيا يعقبها فوز الآخرة
انكسِر.. فمن انكسر عند الله جُبر
﴿ أَلَمۡ يَجِدۡكَ يَتِيمٗا فَـَٔاوَىٰ ﴾ [الضحى – ٦]
ما أجمل تطمين الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقد ذكره بما سبق من عنايته وساقه – كما قال ابن عاشور – ” مساق الدليل على تحقق الوعد، أي هو وعد جار على سنن ما سبق من عناية الله بك من مبدإ نشأتك ولطفه في الشدائد باطراد بحيث لا يحتمل أن يكون ذلك من قبيل الصدف لأن شأن الصدف أن لا تتكرر فقد علم أن اطراد ذلك مراد لله تعالى.
والمقصود من هذا إيقاع اليقين في قلوب المشركين بأن ما وعده الله به محقق الوقوع قياساً على ما ذكره به من ملازمة لطفه به فيما مضى وهم لا يجهلون ذلك عسى أن يقلعوا عن العناد ويُسرعوا إلى الإيمان وإلا فإن ذلك مساءة تبقى في نفوسهم وأشباح رعب تخالج خواطرهم. ويحصل مع هذا المقصود امتنان على النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية لاطمئنان نفسه بوعد الله تعالى إياه “. انتهى المقصود من كلامه
ولعل من حسن الظن بالله أن ننظر فيما سبق من حياتنا ومافيها من ألطاف ونعم، فنرجو بذلك ونستأنس أن يديم الله علينا عادته من الرحمة والكرم والتجاوز، وإذا أصبنا بشيء نكرهه، فلنذكر ذلك الظن الحسن ونستدل بما سبق على أن ما يجري فيه لطف وحسن عاقبة.. مع دوام الحذر أيضا من عاقبة ما يغضب الله تعالى ويبعد عن مرضاته، فليس للواحد منا عصمة، لكنا نرجو ونخاف، فلا يستبد بنا يأس ولا ينقطع عنا طمع، ولا يقصم ظهورنا أمن فنتمادى في سرف
والله الهادي وعليه التكلان
انظر إلى أضعف المخلوقات التي تدب أمامك وتأمل كيف ترزق على ضعفها وعدم تعقلها
اشعر بالقدر.. نعم ما يحدث لك قدر، يعني ذلك أنه تدبير ولطف وله غايات وعواقب، وكن مع الله ثم اسعد بالشعور بأن في أقداره اللطف والحكمة والرحمة والتدبير
وإذا سمعت أصوات الطيور فهي تذكار التوكل، فانظر لها كيف تغدو وتعود بأرزاقها على صغرها وضعفها وعدم ظهور ما تأكل بعينك المجردة
واذكر قوله صلى الله عليه وسلم (لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكُّله ؛ لرزقكم كما يرزق الطيرَ : تغدوا خماصًا وتروح بطانًا)
صفة اللطف التي تجلت في قصة يوسف عليه السلام لا تنفك عن أقدار الله في كل زمان ومكان، ولو استطاع الواحد منا أن يرتفع عن تفاعلات اللحظة ويبصر كامل الصورة لأدرك ذلك.. ولسنا بحاجة لذلك إن وجد الإيمان والتوكل
الحمد لله
كلمة جميلة.. فيها الثناء مع الحب للذي له الأسماء الحسنى
الإنسان فطر على حب الكمال والجمال، والحمد لله كلمة حب لله ﷻ
الذي استحق كل الحمد ضرورة تخلى عن كل نقص، فسبحان الله وبحمده.. تنزه عن كل نقص وله كل حمد، ولا يكون كذلك إلا الأحد
لو كان له شريك كان فيه نقص، ولما استغنى إذا وقام به كل شئ، فإثبات وجوده سبحانه يستلزم غناه وكماله المطلق وتوحيده
من جمال العقيدة وضوحها وقوة ترابطها وحجتها، فلو بدأت بإثبات وجود الله من ضرورة السببية تجد أنه يلزم منه الكمال والتوحيد
فتأخذ الضرورة العقلية والتلازم القطعي بعقلك ليقين واضح بتصورات يسكن لها عقلك وترتاح نفسك وتُلبى تساؤلاتك، فتفئ عابدا مطمئنا
ولو قلبت طرفك يمنة ويسرة لوجدت كل منحرف يرقبك قلقا محتارا لم تسكن نفسه لما حملها عليه من الباطل، فهو في تنافر مع فطرته وعقله
فالحمد لله..
تمسك بإيمانك وحافظ عليه بإنكار قلبك لكل ما أسخط الله تعالى، فليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل
تمسك بالإيمان الذي يتضمن تعظيم الرب سبحانه والغضب له إذا انتهكت محارمه، وحب ما يحب وبغض ما يبغض
تمسك بالإيمان الذي أنت فيه عبد فقير لمولاك، وربك الغني الكريم، الذي خلقك ورزقك وسخر لك ودبرك، وهو رب كل شيء، فجحوده والإساءة له سبحانه أشنع جرم وأعظم ذنب، وغضبك له دليل حياة قلبك
تمسك بالإيمان الذي يحركك وفق شرعه معظما لأمره ونهيه، محبا لأوليائه مبغضا لأعدائه
واحذر الإيمان الفلكلوري، الذي يجعل علاقتك بالله علاقة عادة وتقاليد مجتمع يتغير بتغير الأحوال بلا انقياد لأمر الله ولا تسليم لشرعه، أو إيمان عبودية النفس، الذي تطلب فيه مشاعر روحانية تخفف بها أعباء الحياة، ثم لا تعتقد عليك تكليف العبودية وانقياد الطاعة، فأنت وهواك فيه المركز، وغير ذلك تبع
جاء في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيَمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِواهُما، وأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ للَّهِ، وَأَنْ يَكْرَه أَنْ يَعُودَ في الكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ
فالإيمان النافع إذا يستلزم المواقف القلبية الصحيحة، وليس مجرد معرفة لا تثمر عملا ولا تحرك موقفا
فليتفقد العبد إيمانه إذا انتهكت حرمات الله تعالى، وليحرك لسانه بالدعاء والبراءة والدعوة للمواقف الصحيحة حسب استطاعته، وليحضر في قلبه أن الله تعالى يمهل بحلمه ولا تتخلف سننه في استدراج أعدائه والمكر بهم، وأن الأمر كله له، ولا يغتر بمن يتقلب في نعمه ثم يستعملها في انتهاك حرماته، فإنه مغرور ممكور به
أنزل الله تعالى الرسالات ليقوم الناس بالقسط، وأمر بالعدل وحرم الظلم على نفسه، وأخبر عن نفسه بأنه لا يجب الظالمين
فمن صميم الإسلام اعتقاد هذه المعاني والعمل بموجبها، ومن لوازم عبودية الله تعالى أن يكون الله تعالى في نفس العبد أعظم وأكبر من كل شيء، وأن يعظم ما عظمه تعالى من الحرمات، ويبغض ما أبغضه من الجرائم والمنكرات، وأن يوافقه في بغضه فيبغض من أبغضه، وفي محابه فيحب من يحبه
وعلى هذا المحك يتميز العبد الذي يخضع لله، عمن يتخذ دينه لهوا ولعبا، وشعارات خاوية يتوصل بها لأغراض دنيوية، ويوليها ظهره عند أقرب موقف يرى فيه مصلحته خلافها، كما قال تعالى ﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: ١٤١]
فليتبصر كل إنسان في حال قلبه، فإن وجده منفعلا بالحب والبغض في محله، فليحمد الله، وإن وجده باردا لا يتحرك لما يغضب الله تعالى فليخش على نفسه ويتدارك قلبه المريض، قبل أن يأتي يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم
من النعم العظيمة أن يرى العبد ألطاف الله تعالى في أقداره، وحتى لو لم يكشف خفاء مقاصدها وحكمها كاملة، فاستشعار ما يبدر من ذلك بحسن ظن ورجاء في الله، له أثر عظيم في صلاح القلب وطمأنينته وأنسه بمولاه
مواقف الصبر والاحتساب والثبات التي ظهرت في أزمة الزلزال رغم هولها هي صورة عظيمة من صور العبودية لله تعالى، ومع زيادة الشدة يزيدك التأمل فيها إعجابا، لا بما يظهر من حسن إيمان أصحابها – نحسبهم كذلك والله حسيبهم- فقط، بل بعظمة الرب الذي يستحق لذاته وكماله وإنعامه أن يصل العبد في درجات العبودية إلى مغالبة الأهوال والمصابرة عليها لأجله..
وكذلك لعجيب قدرته سبحانه في تثبيت عباده ومد قلوبهم بما يربط عليها في مواقف لا يصبر أشد الناس على أجزاء منها..
ومن حكمة هذه الشدائد أن تستخرج هذه الأحوال من أصحابها وتشهد الخلق عليها، وفي ذلك من معرفة الله تعالى وتحقيق عبوديته ما يبهر العقول وينثر العبر، مع مافيها من حكم ومصالح كثيرة دنيوية وأخروية
وأما ما ظهر من بعض الأطفال من مواقف الصبر وإظهار العبودية لله فلون آخر من العجب، وفيه دلالة إضافية على كمال الفطرة وكونها صنع الرب الذي حماها وثبت عليها هؤلاء الصغار، ولعل الله تعالى يصنعهم على عينه لأمر..
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦)﴾.
يقول الطبري :
يعني بذلك: وبشِّرْ، يا محمد – صلى الله عليه وسلم – ، الصابرين الذين يعلَمون أن جميعَ ما بهم مِن نعمةٍ فمنِّي، فيُقرُّون بعبودتي، ويوحِّدونَني بالرُّبوبيةِ، ويصدِّقون بالمعادِ والرجوعِ إليَّ، فيَستسْلِمون لقضائِي، ويَرجُون ثَوابِي، ويخافون عقابِي، ويقولون – عندَ امتحانِي إيَّاهم ببعضِ مِحَنِي، وابتلائِي إيَّاهم بما وعَدتُهم أن أبتلِيَهم به من الخوفِ والجوعِ ونقصٍ من الأموالِ والأنفسِ والثمراتِ وغيرِ ذلك من المصائبِ التي أنا مُمْتَحِنُهم بها -:
إنّا مماليكُ ربنا ومَعْبودِنا أحياءً ونحنُ عبيدُه، وإنّا إليه بعدَ مَماتِنا صائرونَ. تسليمًا لقضائِي ورضًا بأحكامِي.
قضية المسلم الكبرى هي عبودية الله وما تقتضيه من الحياة لها والولاء والبراء فيها
تأمل محور الرسالات.. {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}
إنها عبادة الله بكل معانيها والكفر بالطاغوت بكل معانيه {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}
إنها عبادة الله بالمحبة والتعظيم المتغذّيان بمعرفته بالفطرة والوحي، وبمشاعر القلب خوفا ورجاء ورغبة ورهبة وتسليما، وبكل جارحة وقول يحبه تبارك وتعالى
ولأنها عبادة لا أي محبة، ولأنه الأحد، فإنك تأبى أن يجعل له ند في عبادته وأسمائه وصفاته، وتراه أعظم الظلم، فتوالي وتعادي بذلك
فإن فقهت ذلك انضبطت مواقفك وحركاته وسكناتك حتى يكون محياك ومماتك لله، فتُخلِص وتَخلُص فلا يسلط عليك شيطان وتحرق بنورك الظلمات
يقول تعالى : ﴿ بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ فَلَهُۥٓ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ﴾ [البقرة – ١١٢]
قال الطبري :
” وَخَصَّ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ بِالْخَبَرِ عَمَّنْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهه لِلَّهِ } بِإِسْلَامِ وَجْهه لَهُ دُون سَائِر جَوَارِحه ; لِأَنَّ أَكْرَم أَعْضَاء ابْن آدَم وَجَوَارِحه وَجْهه ، وَهُوَ أَعْظَمهَا عَلَيْهِ حُرْمَة وَحَقًّا ، فَإِذَا خَضَعَ لِشَيْءِ وَجْهه الَّذِي هُوَ أَكْرَم أَجْزَاء جَسَده عَلَيْهِ فَغَيْره مِنْ أَجْزَاء جَسَده أَحْرَى أَنْ يَكُون أَخْضَع لَهُ ” انتهى
وفي هذا فضل السجود الذي يوضع فيه الوجه على الأرض، ومعه بقية الأعظم السبع، وإذا كان ذلك بصدق وإحسان كان معه الخضوع لله في سائر الأقوال والأعمال، بحيث يكون مذعنا منقادا مستسلما، لا معارضا معاندا مستكبرا، فلهذا عند مولاه الوعد بالأجر والأمن من الخوف والحزن.. نسأل الله من فضله
يحتاج طالب العلم أن يجعل العبودية أعظم المقاصد وأمها، يتبعها كل ما سواها، وهذا يقتضي أن يكون الأولى بوقته وجهده الأوجب والأحب لله تعالى، فإن كان في طلب العلم فذاك، وإن كان في أمور أخرى أوجبها عليه العمل بالعلم، فذاك حتى لو أثر على الاجتهاد في الطلب، فالعلم يراد للعمل عبودية لله تعالى
يريد صاحب الهمة أن يبلغ منزلا عاليا في العلم يستغرق للوصول له كل وقته، وربما رسم صورة جميلة لنفسه بعد سنوات الطلب، فربما يجد مهمات أخرى تنازعه الوصول لتلك الصورة، فإن كان قد فقه العبودية، فلن ينزعج كثيرا، لأن طريقها هو في ما هو أحب وأرضى لله، حبا له سبحانه وتعظيما وتسليما
ولذا فمن المهم استحضار فقه الأولى، وهذه مادة سابقة لعل فيها فائدة:
لو لم يكن في عبودية أيوب عليه السلام وصبره الطويل إلا أن رب العز والجلال قال فيه ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)﴾ لكفى بذلك ثمرة
فلم يرض الله له أن يحنث بيمينه فشرع له تشريعا مخففا، وأثنى عليه باسم العبودية وصفة الصبر وكثرة الأوبة.. ولا يخفى للمتأمل أن وراء هذا الحديث الرباني عن عبده الصالح حب إلهي عظيم
وطريقة حديث القرآن عن من يحبهم الله جميلة جليلة، تأمل في قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : ﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ فأقسم بعمره!
وفيما لا يخص الأنبياء وحدهم تأمل جمال الوصف : ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ إلى قوله: ﴿ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ﴾
أحدث التعليقات