رسائل الصبر

في الدنيا من الآلام ما لا طاقة لك به إن لم تستعن بالإيمان.. المسألة من اختيارك ولكن لن تتحمل الخيارات الأخرى وسينكسر قلبك عند أول امتحان، ولو حصل هذا فلن يجبره أيضا إلا الله تعالى

‏كلما اشتد بلاء المؤمن اشتدت فاقته لله وعظم يأسه مما في يد من سواه..

فلله تلك الدموع، وذلك القرب العظيم.. وقوده آلام، ومركبه رجاء، ومجاديفه دعاء، ومنتهاه رحمة وحسن جزاء

 إضاءة: يتمني أقوام يوم القيامة لو قرضوا بالمقاريض لمايرون من عظم أجر أهل البلاء

لكي نضع الأمور في حجمها الصحيح نحتاج لتذكر حقيقة أننا في حالة عبور سريع إلى مستقر أبدي.. فتهون كثير من الأشياء

كلما كان ذلك أكثر حضورا كلما كنا أكثر اتساقا مع الحقيقة

مع حسن الظن بالله والإيمان بلطفه وحكمته وكرمه، يداعب القلب ذلك الشعور الجميل بترقب الفرج، حتى أنه لو لم يحصل للعبد إلا ما يجده من راحة القلب وتعلقه بمولاه وتوكله عليه، لكان في ذلك ما هو خير له مما يرجو في العاجلة

إن لم تخرج من يومك إلا بخشوع الصلاة فنعم ذلك اليوم..

نعم انت في الدنيا دار البلاء، ولكن ثمة نوافذ تجد منها رائحة الجنة، فتخرج من ضيقها إلى سعة الآخرة..

فإن سألت ما المفتاح؟ فهو المجاهدة على وسائل الخشوع، واجعل قصدك رضا الله ومحبته وانشغل بذلك، ولا تشغل نفسك بما يعطيك هو، فعطاؤه إن أتاك أنساك كل تعب وحمدته على أن صبّرك

{ إياك نعبد وإياك نستعين}

الاستمرار على الدعاء استمرار لعبادة الرجاء وحسن ظن بالله وثقة بقربه

وعدم الضجر بعدم حصول المطلوب بالكيف والوقت الذي تشتهيه النفس هو ثقة بحكمته سبحانه وتسليم لقضائه ورضاء بحكمه

إن محنة ارتفعت فيها الأيدي وحصلت بها كل هذه المعاني القلبية لهي نعمة حقيقة، فأي فضل أن يرضى العبد بربه ويتقلب بين عبادات القلب والبدن حتى يرتفع ذلك البلاء في الدنيا، أو تذهب الدنيا وما فيها ويفد على الله ﷻ بقلب مخبت صابر فيوفى أجره بغير حساب

‏مفتاح معية الله سبحانه:

قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} سورة البقرة – ١٥٣

من كان مع الله لايهزم

من أجمل ما في الجنة أنها دار السلام، لا أذى فيها ولا حزن ولا تعب

{جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (33) وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور (34) الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب (35)} [فاطر : 33-35]

‏قطعوا رجل عروة بن الزبير للآكلة فلم يُسمع له حس وقال بعدها:

لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لقد عافيت.

وماترك حزبه من القراءة تلك الليلة ‎

‏قال سهل رحمه الله: علل الأجسام رحمة الله وعلل القلوب عقوبة

الابتلاءات

تعيد الشارد لباب الإيمان متضرعا شاكيا همه لله فتقوى الصلة ويزيد الإيمان.. إنها منة في ثوب محنة

‏ومن أراد خروجا من ضيق البلاء لسعة الفضاء فليتدبر الوارد في الصبر في الكتاب والسنة

وكتاب عدة الصابرين لابن القيم يجول به في ذلك مع فوائد جليلة يستنبطها هذا الإمام

يقظة القلب قد تكون بالبلاء، فيتعرف على الله أكثر، ويلح بالدعاء، وينقطع رجاؤه من كل شيء إلا هو، فيجد من الأنس به في هذه الحال ما يريح ذلك القلب المتعب ويقويه على الصبر والثبات

‏الإيمان بالقدر ينتج معرفة ‎النعمة والفرح بها فرح شكر، ويمنع فرح البطر والفخر والكبر.. ‎

تدبر :

{لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور} [الحديد : 23]

تعلمنا غزوة أحد ‏أن الخلل في الصف المسلم قد ينكشف في أوقات حرجة جدا ، ويقع البلاء الذي ينقي الصف ويربي النفوس في تلك الأوقات، لأن حفظ الدين وإخلاص ‎القصد لله فوق كل اعتبار وقتي..

يقول تعالى: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين} [آل عمران : 152]

وهكذا الأمر في حنين، حصل الابتلاء ونزل القرآن يشخص حالة احتاجت لتصحيح {إذ أعجبتكم كثرتكم}

وهذا كله يوقفنا على حقيقة مهمة: استقامة دنيا العباد واستدامة تمكنهم تهون عند استقامة دينهم، ولذلك تحصل الابتلاءات ولو في الأوقات الحرجة

إضاءة: ‏إن ‎الابتلاءات من طبيعة الطريق، لكن القصة لا تنتهي هنا، فالبحث عن الخلل والتوبة من أعظم مقاصد الابتلاء، ويصرف عنه اتباع الهوى والاستعلاء.. عافانا الله والمسلمين


السبب المتشوش!

من أجمل ما قرأت للسعدي رحمه الله

في قوله تعالى في قصة موسى : {فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون}

قال رحمه الله : ” فأريناها بعض ما وعدناها به عيانا، ليطمئن بذلك قلبها، ويزداد إيمانها، ولتعلم أنه سيحصل وعد الله في حفظه ورسالته، {ولكن أكثرهم لا يعلمون}، فإذا رأوا السبب متشوشا، شوش ذلك إيمانهم، لعدم علمهم الكامل، أن الله تعالى يجعل المحن الشاقة والعقبات الشاقة، بين يدي الأمور العالية والمطالب الفاضلة.. “

أقول: تأمل ما عبر عنه بتشوش السبب، تجد أن مرادنا كبشر بعد أن ندعو وننتظر الفرج أن نرى سببا صافيا يطمئننا بقدوم الفرج، لكن الأسباب قد تكون متشوشة كما عبر السعدي، وفي تشوشها حكم وألطاف

وفي قصة موسى وغيرها من قصص القرآن ما يوقفنا على هذه الحقيقة، ولعل بالتدبر في ذلك يحصل للنفوس هذا العلم المورث للطمأنينة، لعدم منافاة التشوش الذي يبدو في الأسباب لحقيقة أن وعد الله حق

أقول : يا له من معنى !
” الله تعالى يجعل المحن الشاقة والعقبات الشاقة، بين يدي الأمور العالية والمطالب الفاضلة.. ” السعدي

 

الأمل الجميل !


التفكر في عنصر المفاجأة في الأقدار يبعث الأمل، فكم من ضائقة تنزل بالعبد لا يكاد يجد منها مخرجا، ثم تأتي ألطاف الله من حيث لا يحتسب.. وتشعر أن في ذلك التقدير جمال

تأمل مثلا قصة يوسف عليه السلام، تجد فيها جمالا في تدرج الأقدار به من غيابة جب إلى منصب خزائن الأرض!

لم يكن صبر يعقوب وحده هو الجميل، بل كان قضاء الله فيه وفي بنيه جميلا، وقراءة ذلك للمحزون تبعث أملا جميلا..

من فوائد الابتلاءات أنها تكشف ضعفنا وتعرفنا ستر الله علينا ولطفه بنا.. وخصوصا لحظات الضعف التي تعترينا، فندرك بها أن ثباتنا منة منه، وأننا لا قوة لنا عليه لو تركنا وحدنا نواجه معارك الحياة

تشعر وقت ضعفك بالخوف وأنك لو وكلت لنفسك هلكت، ولربما كانت نجاتك بسبب معافاته لك مما لو تعرضت له هلكت

من مأثور الدعاء:

يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين

التخفيف من آلام الآخرين من أجمل وسائل تخفيف الألم عن النفس

كذا فليهون الخطب وليسهل الأمر
ولا يرَ إلا باسما كالضحى ثغر

فليس يرى في العالمين مصيبة
تدوم ولا عسر يتاركه اليسر

نبهتني لسرها وهي ماضية
وأشارت بطرفها وهي خافية

حين يمضي البلاء يا لهف نفسي
يعلم الفطين نعمة العافية

في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : (من أصبحَ معافًى في بدنِه آمنًا في سِربِه عندَه قوتُ يومِه فَكأنَّما حيزت لَهُ الدُّنيا بحذافيرها)

* الصورة لمخيم من تشاد

من المهم أن نتنبه إلى أن حِكم البلاء أعظم من أن تحصر بالأجر.. مع عظم الأجر ومافي استشعاره من سلوى

فالله تعالى يستخرج بالبلاء عبوديات ويصلح به طويات ويفيض به علوما وألطافا لا تكاد تدرك بدونه.. ومفتاح ذلك الصبر والرضا والتسليم مع حسن الظن والتوكل والتفكر في حال النفس وأثر البلاء عليها.. ليبصر العبد أن ما حل به إنما هو خير سيق بلطف، وعلم سيق بمعايشة لأحوال عملية تسوق القلب لمولاه

ومن المواضع التي ينبغي للمبتلى أن يتفكر فيها طويلا قوله تعالى حاكيا نداء ذي النون في وسط البلاء وهو محيط به { أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}.. تأمل مثلا كيف بدأ بالأساس وهو إخلاص التأله لله، بما فيه من حب وتعظيم وإقرار بالربوبية وما تستلزمه من إخلاص العبودية، ثم لهج بالتسبيح، وكأنه ينزه الله تعالى عن أن يكون في تدبيره وتقديره له نقص، وفي هذا التفات للنفس باستشعار التقصير والحاجة للمحاسبة والتوبة، ثم أقر بذلك صريحا في خضوع وإنابة، فما ظنك بالله كيف يفعل به؟ {فاستجبنا له ونجيناه من الغم}، وهي ليست له خاصة {وكذلك ننجي المؤمنين}

إذا حبست نفسك في ظروف اللحظة الراهنة فقد ينسد عليك الأفق وتغيب عنك شموس الأمل..

فإذا تدبرت القرآن..

وجدت فيه التحذير من الاغترار بظاهر الأحوال، والكشف عن حقائقها وبواطنها، فأنت تسير على صراط مستقيم وهدى من الله وتأييد، وأهل الباطل يتنكبون ويتشتتون وتتخبطهم الشياطين ويألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون، فتعتدل نظرتك لإيمانك بخبر الغيب.. ولبصيرتك التي ترى بها ما وراء سطور الواقع من بعض حقائق التدبير..

ثم تجد التحليق بك في أمم خلت، عمروها وفتحت لهم رغم خروجهم عن طاعة ربهم، وضاق فيها على أهل الإيمان مثل ما ضاق عليك أو أكثر، ثم فني الظلم وأهله وكانت العاقبة للمتقين..

ثم تجد الوعد بظهور هذا الدين ومن تمسك به، فتنفتح أمامك نوافذ المستقبل، وترى أملا جديدا ينبع من ثقتك بربك، وهي الثقة التي يعززها القرآن بحديثه عن الله تعالى وصفاته وسننه..

ألطاف الله دوما موجودة.. لكن بعض الأبصار عن بعضها محجوبة

ارتبط دعاء الكرب بترديد “لا إله إلا الله”، ودعا بها يونس عليه السلام فنجاه الله من الغم

لعل من أوجه ارتباطها بالكرب أنها تذكر النفس أنها أعظم مغنم وأنها حاصلة لها مهما كانت مكروبة، فقد اتصلت بالله تعالى حبا وتعظيما، واجتمعت عليه، وهو الرب سبحانه المتصف بالحياة والقيومية والسمع والإجابة والولاية للمؤمنين والكفاية لهم

هذا المغنم لا يوجد أعظم من الظفر به، ولا يوجد فقد منذ خلقت البرية إلى قيام الساعة أعظم من فقده، فمهما كان فيك من البلاء فهو حسبك، مع ما فيه من معنى التأله لله وحده واللجوء له، ونعم الوكيل سبحانه

ولو تأمل الإنسان في كل ما يمكن أن يحصل له لوجد أنه لا توجد قوة مخلوقة يمكنها أن تنزع ذلك من قلب من اعتقده واعتصم به، {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}

فنسأل الله تحقيقها والثبات عليها حتى نلقاه

الدنيا تارة تسر وتارة تسوء، ولن تدوم لأحد فيها مسرة ولا يدوم فيها ما يسوء.. ولهذا الفهم أثر في اعتدال المشاعر عند تجدد أسباب السرور أو العكس، وذلك الاعتدال يعين على الصبر عموما وعلى استمرار العبد في سعيه للآخرة حيث تنفصل السعادة عن الشقاء للأبد {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا} [الإسراء : 19]

للفائدة: ( انظر: مقال الطبيعة الغائبة)

أنت أيها الفرد عندما تتمسك بدينك وتشتغل على بناء الوعي في نفسك بقدر استطاعتك ثم تمد يد التأثير ولو يسيرا في محيطك.. أنت قد ترى نفسك قطرة صغيرة، لكن السيل اجتماع القطرات، والأمة التي تتراكم فيها نماذج الثبات الفردية أمة ينبض قلبها ولو بضعف.. ويوشك أن تدب فيها أشكال الحياة ولو بعد حين..

فلا تحبط ولا تخمد

بعض أحوال القلب في عبوديته لله يصعب التعبير عنها، لا سيما في الشدائد، فهي محل لانكسار القلب ولجئه لله ورجائه ما عنده، واستشعار ربوبيته وقيوميته وقدرته ونفاذ أمره وقهره لخلقه وعلوه عليهم، ثم مع ذلك يستشعر القلب فاقته له وحبه وإجلاله، ثم ربما نشأ من ذلك تلذذ وراحة وانشراح، فيمتزج في القلب من الأحوال العجيبة ما لا يمكن التعبير عنه بالكلام..

فسبحان الذي يبتلي ليلج عبده في أحوال علية شريفة قد لا تتهيؤ إلا بذلك، مع ما ينفتح فيها من المعارف وحسن التفكر والبصيرة والحكمة

فاللهم نسألك عافيتك وأن تدخلنا في رحمتك ولا تحرمنا بذنوبنا وتقصيرنا، وأن تعاملنا بفضلك فنجوز به إلى كرامتك وولايتك

من فوائد الابتلاءات الشديدة أنها إذا مرت وتجاوزها الإنسان، كان المار بها منتفعا في نفسيته مرونة تهيؤه لتحمل النمط الأكثر حصولا من الابتلاءات، وهو النمط الذي قد تنكسر عنده بعض النفوس التي لم تمر بشيء من الشدائد، وتتحمله النفوس التي جربت وصابرت

والحياة فيها مسؤوليات ومهام عظيمة قد لا تتهيؤ لها النفوس إلا على جسر من الشدائد، ثم تكون العاقبة..

والإنسان يسأل الله العافية، والحديث عن الابتلاء من باب فهم السنن والبصيرة في الوقائع، لا من باب استشراف البلاء

ويناسب هنا قول السعدي في آية آل عمران ١٥٣:
فأثابكم أي: جازاكم على فعلكم { غما بغم } أي: غما يتبع غما، غم بفوات النصر وفوات الغنيمة، وغم بانهزامكم، وغم أنساكم كل غم، وهو سماعكم أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل. ولكن الله -بلطفه وحسن نظره لعباده- جعل اجتماع هذه الأمور لعباده المؤمنين خيرا لهم، فقال: { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } من النصر والظفر، { ولا ما أصابكم } من الهزيمة والقتل والجراح، إذا تحققتم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل هانت عليكم تلك المصيبات، واغتبطتم بوجوده المسلي عن كل مصيبة ومحنة، فلله ما في ضمن البلايا والمحن من الأسرار والحكم، وكل هذا صادر عن علمه وكمال خبرته بأعمالكم، وظواهركم وبواطنكم، ولهذا قال: { والله خبير بما تعملون }

﴿ وَلَمَّا رَءَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۚ وَمَا زَادَهُمۡ إِلَّآ إِيمَٰنٗا وَتَسۡلِيمٗا ﴾ [الأحزاب – ٢٢]

رحم الله عبدا فوض الأمر لله ولم تهتز به ثقته، فإيمانه لا ينتظر الوقائع ولا يبنى على التجارب، بل هي عنده جسر لموعود الله مهما كان إيلامها

جواب عن طلب توجيه لمن اشتد عليه البلاء ودعا وصبر فلم يجد الفرج 👇🏻

لو لم يكن في حسن الظن بالله إلا راحة القلب ونعيمه بالثقة بالله لكفى، ومع ذلك يحصل للعبد من مشاهدة اللطف والحكمة ما يغيب عن من حجبه سوء الظن عن الخير

حسن الظن سر التوكل، والشيطان حريص على التقنيط وصرف العبد عن شهود كمال الله عز وجل ورحمته ولطفه بمشاهدة تقصيره في جنب الله، مع أن ذلك التقصير مع الانكسار والاعتراف بالذنب يرجى معه الجبر والرحمة

محاسبة العبد نفسه مطلب، لكن ليس من الفقه أن تحضر تلك المحاسبة في صيغة القنوط والظن بالله أنه ينزل الحرمان في مقام الانكسار والفاقة إليه، فهذا خلاف عادته التي امتن بها سبحانه، فالله بر رحيم، ونعمه وأقداره شاهدة

صفات الربوبية ليست خاصة بالصالحين، فالله هو رب العالمين، وكل خلقه عالم، وأنا وأنت من ذلك العالم

الأوقات الصعبة أوقات ثوران للانفعالات، حتى إن الإنسان العاقل يجد من نفسه ما يستنكر في بعض اللحظات، ومن أنفع التدابير في هذا أن يتأنى الإنسان، فلا يتلقف كل فكرة تدور في باطنه، وقد تكون وسواسا يلقيه الشيطان ليغتنم فرصة الضعف التي سنحت، ومن رحمة الله أن مجرد الانتظار في كثير من الأحيان كفيل بتصحيح التفكير بعد مرور لحظات الانفعال، والتي لا تدوم للأبد

والأفكار الخاطئة التي تدور في الأذهان ويلتبس بعضها ليست بمستغربة على من يعيش واقع المسلمين هذا، فهو واقع متداخل تداعت فيه الأمم، وكثرت فيه الأفكار الغازية، والمناهج الباطلة، والسموم الفكرية، إضافة لأفق يبدو مسدودا على من يفكر في طريق الخلاص، وهذه الخلطة مثالية لتبنى الأفكار المنحرفة يمنة أو يسرة، والتي تبسط الواقع أو تبسط الحل وتبيع الوهم، أو ربما يقع اليأس والانتكاس

وهنا يبرز دور العبودية في ضبط البوصلة، ويبرز دور تصورات الوحي عن غاية الوجود ومنزلة الدنيا فيه من الآخرة، وضمن ذلك سنن الابتلاء والتغيير، والنظرة العلوية لتقلبات الزمان ضمن تلك السنن وطول مداها الزمني في كثير من وقفات التاريخ، والتي تنتهي بنهاية موعودة قد لا يدركها كل من عضته تفاصيل الأحداث، لكنه سيدرك من الآخرة ما يحقق موعوده الخاص

لنتذكر أن الغاية العظمى أعلى من هذا الركام من الآمال والآلام المؤقتة، ولنشمر سواعد الجد في الإصلاح لا لنهاية قريبة قد ندركها أو لا ندركها، بل لغاية تتضائل دونها كل الآلام، ومن عمل لذلك فلن يدركه خسران مهما بدا واقعه مؤلما

إن تراكمات الجهود في كل مسارات الإصلاح والتغيير المطلوبة شرعا ستؤتي أكلها في هذه الدنيا لا محالة، وتلك سنة الله، لكن الشأن في المستوى الفردي للعامل في هذه الدنيا، فهذا لم يكن مقياسا مطردا في يوم من الأيام، إلا إن كان بالمعنى الأوسع للثمرة التي تشمل السكينة والنصر المعنوي، فهذا يدركه كل من صبر لله وأحسن، والله لا يضيع أجر المحسنين

بهذا المنظور يستمر العمل رغم الصعاب، ويتراكم حتى يؤتي ثماره ولو بعد حين، وهذه النظرة العقلانية يعمل بها حتى الأعداء ممن قصرت هممهم على الدنيا، فهم يعلمون أن الخطط البعيدة والجهود التي يسلم فيها كل جيل لمن بعده نصيبه ، هي التي تقيم نهضات الأمم، وكم من أمة تبدل حالها بذلك والتاريخ لا يكذب، فكيف بمن كان عمله لله وهدفه ممتد لما بعد الدنيا، ووعده محقق بأمر الله لا محالة، فهو أحرى بالصبر والجد والتشمير وعلو الهمة لما فوق السماوات والأرض

والله المعين..

جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : بشِّرْ هذهِ الأُمَّةَ بالتيسيرِ ، والسناءِ و الرِّفعةِ بالدِّينِ ، والتَّمكينِ في البلادِ ، والنصرِ ، فمن عمِل منهم بعملِ الآخرةِ للدُّنيا ، فليس لهُ في الآخرةِ من نصيبٍ. أخرجه أحمد وغيره لا قلق على مستقبل هذه الأمة، ورفعتها تكون بالدين، وينال بذلك المؤمن ما عند الله إن أخلص له طالبا ما عنده

من النعم العظيمة أن يرى العبد ألطاف الله تعالى في أقداره، وحتى لو لم يكشف خفاء مقاصدها وحكمها كاملة، فاستشعار ما يبدر من ذلك بحسن ظن ورجاء في الله، له أثر عظيم في صلاح القلب وطمأنينته وأنسه بمولاه

مواقف الصبر والاحتساب والثبات التي ظهرت في أزمة الزلزال رغم هولها هي صورة عظيمة من صور العبودية لله تعالى، ومع زيادة الشدة يزيدك التأمل فيها إعجابا، لا بما يظهر من حسن إيمان أصحابها – نحسبهم كذلك والله حسيبهم- فقط، بل بعظمة الرب الذي يستحق لذاته وكماله وإنعامه أن يصل العبد في درجات العبودية إلى مغالبة الأهوال والمصابرة عليها لأجله..

وكذلك لعجيب قدرته سبحانه في تثبيت عباده ومد قلوبهم بما يربط عليها في مواقف لا يصبر أشد الناس على أجزاء منها..

ومن حكمة هذه الشدائد أن تستخرج هذه الأحوال من أصحابها وتشهد الخلق عليها، وفي ذلك من معرفة الله تعالى وتحقيق عبوديته ما يبهر العقول وينثر العبر، مع مافيها من حكم ومصالح كثيرة دنيوية وأخروية

وأما ما ظهر من بعض الأطفال من مواقف الصبر وإظهار العبودية لله فلون آخر من العجب، وفيه دلالة إضافية على كمال الفطرة وكونها صنع الرب الذي حماها وثبت عليها هؤلاء الصغار، ولعل الله تعالى يصنعهم على عينه لأمر..

رسالة لمن تعب من الابتلاءات فضجر ثم أراد الرجوع 👇🏻

قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦)﴾.

يقول الطبري :

يعني بذلك: وبشِّرْ، يا محمد – صلى الله عليه وسلم – ، الصابرين الذين يعلَمون أن جميعَ ما بهم مِن نعمةٍ فمنِّي، فيُقرُّون بعبودتي، ويوحِّدونَني بالرُّبوبيةِ، ويصدِّقون بالمعادِ والرجوعِ إليَّ، فيَستسْلِمون لقضائِي، ويَرجُون ثَوابِي، ويخافون عقابِي، ويقولون – عندَ امتحانِي إيَّاهم ببعضِ مِحَنِي، وابتلائِي إيَّاهم بما وعَدتُهم أن أبتلِيَهم به من الخوفِ والجوعِ ونقصٍ من الأموالِ والأنفسِ والثمراتِ وغيرِ ذلك من المصائبِ التي أنا مُمْتَحِنُهم بها -:

إنّا مماليكُ ربنا ومَعْبودِنا أحياءً ونحنُ عبيدُه، وإنّا إليه بعدَ مَماتِنا صائرونَ. تسليمًا لقضائِي ورضًا بأحكامِي.

في ثنايا الابتلاءات معان ودروس لا تكاد تحملها العبارات