دلائل البشارات والأحوال الممهّدة (١-٢)
{فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ..
🌿 بهذه الجملة جاء جواب القرآن الكريم -ضمن إجابات أخرى- في إثبات صحة نبوة نبينا محمد ﷺ… جاء ذلك في سورة يونس عليه السلام، في سياق الإجابة على بعض شبهات المشركين واعتراضاتهم حول نبوة سيدنا محمد ﷺ.
🌿 إن هذه الجملة على قلة عدد كلماتها تحمل بين حناياها كثيرا من المعاني والأحداث، تذكر المشركين بواقع شهدوه وعاينوه، ترجع بذاكرتهم إلى أحداث وأحوال وإشارات لا تترك مجالا لعاقل أن يكذب نبوة هذا النبي الكريم..
🌿 وإننا إذا تأملنا كيف جاءت هذه الجملة مختصرة، مكتفية بتذكير المشركين الذين عاصروا نشأة النبي ﷺ بتلك الأمور، وإذا تأملنا ختم الآية بقوله: {أفلا تعقلون}.. علمنا مقدار قوة هذه الدلالة، ومقدار وضوحها لدى أولئك المخاطبين.. فهم لا يحتاجون إلا أن يرجعوا بذاكرتهم إلى الماضي قليلا.. متعقلين، متجردين عن أهوائهم وأغراضهم الخاصة.
🌿 وبسبب قوة هذا الدليل وقربه وجماله، فإننا سوف نبدأ رحلتنا المتعلقة بالنبوات بالبحث عن تلك الأحوال وتلك الأحداث، التي تكفي بمجردها إثباتاً لصدق النبي ﷺ وصحة نبوته.. سنحاول أن نعيش -قدر الإمكان- في ذلك الزمان، وفي تلك الظروف..
🌿 إنها أحداث وأحوال كثيرة متنوعة،
• منها ما يتعلق بنشأته ﷺ
• ومنها ما يتعلق بنَسَبه
• والأحوال الاجتماعية والسياسية التي احتفت بتلك النشأة الشريفة
• ومنها ما يتعلق بأخلاقه ﷺ
• ومنها ما يتعلق بإشارات ربانية وأحداث عجيبة شهدها أناس في ذلك الوقت..
🌿 لم تكن تلك النشأة نشأة اعتيادية، فمن رحمة الله تعالى بالناس أن جعل فيها أحوالا وأحداثا إذا تأمل الإنسان في مجموعها أو في بعضها -مع استحضار جهر النبي ﷺ بالنبوة- قاده ذلك بالضرورة إلى تصديقه والإيمان بنبوته عليه الصلاة والسلام.
🔸زمان النبوّة 🔸
🔹🔹إشارات مبشرات.
أحداث وقعت بين يدي ولادته ﷺ، كان فيها إشارات وبشريات..
▪️منها: ما كان معروفاً لدى أهل الكتاب أن تلك الفترة الزمنية هي زمان نبي بشرت به كتبهم.. علموا ذلك من خلال ما تبقى من حق في كتبهم.. علموا الزمان، وعلموا المكان.. وكانوا في بعض الخصومات يتوعدون خصومهم بذلك النبي، وأنهم سوف يقاتلونهم معه.. لم يكن هذا العلم غائبا عن سكان مكة.. فإنهم خالطوا أهل الكتاب.. باعوهم واشتروا منهم.. اختصموا معهم، وسمعوا منهم تلك البشرى، وذلك الوعيد.. بل كان استحضار ذلك سببا في إسلام بعضهم إذ قالوا: “إن مما دعانا إلى الإسلام -مع رحمة الله تعالى وهداه لنا- أن كنا نسمع من رجل من يهود، وكنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا يزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم”.
[رواه ابن إسحاق في سيرة ابن هشام، وذكره الألباني في “صحيح السيرة النبوية”].
▫️ومنها: رؤية أمه حين حملت به، وقد نقلها النبي ﷺ لمّا سُئل: أخبرنا عن نَفسِك. فقال: «نعمْ، أنا دعوةُ أبي إبراهيمَ، وبُشرى عيسى، ورأتْ أمي حين حملت بي أنه خرج منها نورٌ أضاءَ لها قُصورَ الشَّام»..
[رواه ابن إسحاق بسنده (1/166 سيرة ابن هشام ) ومن طريقه أخرجه الطبري في تفسيره ( 1/566) ، والحاكم في مستدركه ( 2/600) وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي ، وانظر السلسلة الصحيحة (1545].
▪️ومن أعظم الإشارات لمن تأملها -لا سيما بعد سنوات من وقوعها- حادثة الفيل، لما فيها من حفظ له ﷺ ولقومه..
• ملك ظالم هو أبرهة الأشرم، أراد أن ينتقم من العرب، وأن يصرف اهتمامهم من الكعبة التي عظموها، وورثوا تعظيمها من بقايا ملة إبراهيم عليه السلام… أراد أن يصرف اهتمامهم إلى كنيسة بناها.. يظن أنها يمكن أن تقوم في وجه ذلك البيت العتيق، الذي وضعت الملائكة أسسه، وبناه آدم، ورفعه إبراهيم -عليهم السلام-!
خرج بذلك الجيش -مغرورا- متوجها إلى مكة، وأهلُها يومئذ لا يملكون من القوة ما يدفعون به ظلمه وعدوانه، فما كان منهم إلا أن لجؤوا إلى الله تعالى مخلصين له الدين -كعادتهم عند وقوع الشدائد!-… وكان الحدث العظيم.. طيور رمت أبرهة وجيشه بحجارة من سجيل.. {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}…
• لقد كان من الطبيعي في حروب ذلك الوقت، أن يبيد أبرهة الأخضر واليابس في مكة.. وإن أبقى ما تقوم لهم به حياة، فلن تعود مكانتهم كما كانت بين العرب… ولكن الله تعالى حفظ مكة منه.. ففي ذلك العام ولد النبي ﷺ، فكان في حفظ مكة والبيت حفظ للنبي ﷺ من الأذى ومن جريان الرق عليه، لينشأ في مكة عزيزا مكرما…
وليس هذا فقط.. لقد أبقى الله تعالى لقريش بيضتها ليكون بعضهم -بعد سنين- الدرع الحامي لذلك النبي المنتظر، ولتكون قريش كلها -بعد سنين أخرى- حاملة لواء الإسلام، حافظة لكيانه… وصدق الله تعالى إذ قال: { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}… نعم، إنه بكل شيء عليم…
• لقد قامت عقيدة راسخة لدى قريش والعرب أن البيت الحرام محفوظ بحفظ الله تعالى، لا يتمكن أحد من أعدائه من دخول مكة وغزو أهلها، ولكنهم لم يعلموا الحكمة من ذلك الحفظ.. لم يعلموا أن الله تعالى إنما أراد أن يهيء الأسباب ليظهر دينه، ويعز أولياءه…
• إنّ الذي جرى بعد حادثة الفيل من ظهور نبوة النبي ﷺ وانتصاره على كفار قريش، وقتل أكابرهم ممن أبى الإسلام، ثم إباحة مكة له ليدخلها فاتحا، يدل على أن حادثة الفيل لم تكن تفضيلا لذات قريش بغض النظر عن قضية النبوة وموقفهم منها، فهذا الذي جرى من حفظها من أبرهة ثم إباحتها للنبي ﷺ ونصره على كفار قريش يجعل الفضل خاصا له ﷺ ولأتباعه دون كفار قريش، ثم بقي لمن آمن منهم فضل خاص بأن جعلت الإمامة فيهم، وكان منهم أفضل هذه الأمة وهم الخلفاء الراشدين، بل إنّ مكة في أزمنة لاحقة اجتاحها منجنيق الحجاج واستباحتها القرامطة وقلعوا الحجر! ولم يقع الانتقام منهم فوراً كما وقع بحادثة الفيل، وهذا يبيّن أنّ منع الفيل وجيش إبرهة كان فيه مزيد عناية بحياة النبي صلى الله عليه وسلم وسلامته من الرق، وإظهار لفضل قومه، وكل ذلك تمهيد لظهوره نبوته، خاصة مع ما جرى من تتابع حفظ الله له ونصره إياه حتى فتح بلده الحرام وظهر دينه على سائر الأنام.. حتى دخل البيت معظماً له بعدما جاوز الخمسين من عمره.. دخل فاتحا مخرجا أهل مكة من الظلمات إلى النور.. {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا}. [الفتح : 28 ].
🔹🔹أحداث عجيبة !
لم تكن تلك الإشارات كل شيء.. بل إن النبي ﷺ حدثت له وقائع عجيبة، حملت البشريات في طياتها كذلك،
▪️ فحادثة شق صدر النبي ﷺ كانت من تلك الأحداث العجيبة المبشرة بالطهارة التامة لذلك الطفل.. كان يلعب مع مجموعة من الأطفال، فأتاهُ جبريلُ، فأخذهُ فشَقَّ عن قَلبِه، فاستخرجَ القلبَ، فاستخرجَ منه عَلَقَةً، فقال: هذا حَظُّ الشَّيطانِ منكَ، ثمَّ غسلهُ في طِسْتٍ من ذهبٍ بماءِ زمزمَ، ثمَّ لَأَمَهُ، ثمَّ أعادهُ في مكانِه.. لقد رأى الأطفال هذا المشهد، وأسرعوا إلى مرضعته حليمة وهم يقولون: إنَّ محمَّدًا قد قُتل، ثم أتى ﷺ وقد تغير لونه.. قال أنسٌ: وقد كنتُ أَرى أثرَ ذلكَ المِخْيَطِ في صدرِه. [أصله في صحيح مسلم].
▫️لم تكن حليمة لتظن فيما حدث إلا أنه خير وبركة، فهي التي عاينت بركته صلى الله عليه وسلم منذ أن التقت به.. هي التي جاءت إلى مكة على دابة ضعيفة، لتبحث عن طفل ترضعه، فلما أخذت النبي ﷺ، وحملته معها على تلك الدابة إذا بها تسبق صاحباتها، حتى قلن لها: إنك قد أخذت نسمة مباركة.. لقد در حليبها بعد جفاف لما احتضنت محمدا ﷺ، وهي التي كثرت بركة قطيعها بعد أن أخذته إلى ديار بني سعد لينشأ فيها… تقول: فأمسيت وأقبل ثدياي باللبن حتى أرويته وأرويت ولدي أيضا… بل حلت البركة على كل ما في ديار حليمة.. كثر حليب ماشيتها، وحلت البركة في مراعيها. [من حديث حليمة السعدية الطويل المشهور الذي رواه كافة أهل السير، قال عنه الذهبي: “هذا حديث جيد الإسناد”].
▪️ وغير بعيد من ذلك ما رآه الناس لما خرج النبي ﷺ وهو طفل مع عمه أبي طالب إلى الشام، حيث كانت سحابة تظلله في سفره…[رواه الترمذي وحسّنه].
⭐️ إن مثل هذه الإشارات المبشرة جديرة بأن تؤكد للمطلع عليها أنّ صاحبها صلى الله عليه وسلم سيكون صاحب شأن، وكانت الأيام كفيلة بتأكيد ذلك.. فها هو ﷺ يترعرع في مكة.. في طرقاتها، وفي بيوتها، وفي البيت الحرام.. يرى الناس فيه كل يوم ما يؤكد تلك الخيرية، وتلك الاستقامة.. وتلك المكانة المرتقبة..
▫️ حفظ من الله تعالى..
ها هو عليه الصلاة والسلام ينشأ في مكة، يعيش فيها ريعان شبابه.. نشأ محفوظا.. محفوفا بالطهر والكرامة.. حفظه الله تعالى من تلك الخبائث التي كان يقع فيها شباب مكة وشيبها؛ فلم يسجد لصنم، ولم يشرب خمرًا، ولم يدخل في موطن من مواطن اللهو والغناء التي كان الشباب يلهون فيها .
[ابن حبان (6272)، والحاكم (7619) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقال الذهبي في التلخيص: على شرط مسلم. والبزار (640)].
حتى عورته حفظها الله تعالى من الظهور، يقول العباس -عم النبي ﷺ-: لما بنت قريش الكعبة انفردت رجلين رجلين ينقلون الحجارة، فكنت أنا وابن أخي، جعلنا نأخذ أزرنا فنضعها على مناكبنا ونجعل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا، فبينما هو أمامي إذ صرع فسعيت وهو شاخص ببصره إلى السماء قال فقلت لابن أخي: ما شأنك؟ قال: نهيت أن أمشي عريانا. قال: فكتمته حتى أظهر الله نبوته.
[قال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع (6783)]
▪️ وقد حلاّه الله تعالى بالخلق العظيم ، فبلغ أكمل ما يبلغه بشر من الأخلاق، وقد شهد بذلك قومه إذ كانوا يلقّبونه بـ(الصادق)، (الأمين)… وتلك قصة أخرى، وجانب مليء بكل ما هو جميل.. كما قال تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} وله دلالة عظيمة على صدق النبوة، نكمل الكلام فيما يتعلّق منها بالفترة المكيّة، مع أمور أخرى من أحواله الشاهدة بصدق نبوّته، استكمالاً لدليلنا هذا في مقال قادم إن شاء الله تعالى..
✍🏻 فريق الميسر في تعزيز اليقين.
أحدث التعليقات