مقدمات هامة حول إثبات النبوّة 

إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد.

🌿 فها نحن مع محور جديد في مشروع الميسّر في تعزيز اليقين، وهو محور النبوّة، التي هي الغيث للعقول والنور للقلوب، وحاجة الإنسان إليها أشدّ من حاجته للطعام والشراب والنفس، فبها يتوصّل العبد إلى معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، ويعلم الغاية من خلقه، ويدرك ما يريد الله منه وما أمره به وما نهاه عنه، فيرتسم له منهج حياته ويتضح له طريق السير الذي ينتهي إلى جنة الرضوان.

🌿 وكنّا قد مررنا برحلة عظيمة رأينا فيها قوّة الأدلة على وجود الله عز وجلّ وكماله، ورأينا في تلك الأدلّة ارتباطها بإثبات علمه وحكمته وقدرته ورحمته وعظمته وغيرها من صفات الكمال له سبحانه، كما استعرضنا فطرية الحاجة للتديّن. وهذا كلّه له ما بعده، إذ يقتضي إخلاص العبودية لله والصلّة به، ومن رحمة الله تعالى أنّه يقابل ذلك بتلبية هذه الحاجة العظيمة ببيّنات عظيمة على صحّة النبوّة، لتصلنا بربّنا جل وعلا.

🔹🔹كمال الله تعالى وضرورة النبوّة.

• الحكيم لا يخلق عبثاً بلا غاية، ولا يبثّ الآيات لنؤمن به ثم لا ندري كيف نعبده ونصل لرضاه..

• والرحيم لا يترك عباده مفتقرين إليه متلهّفين للقاء يكون فيه الرضا منه والقرب، ثم لا يلبّي حاجتهم لذلك بتعليمهم وهدايتهم، وقد لبّى برزقه وتسخيره وإلهامه حاجات لهم تقوم عليها بعض جوانب حياتهم الدنيا، فكيف بحاجات الدنيا والآخرة التي تلبّيها النبوّة.

• والرحيم تعالى لا يترك عباده يعيشون في هذه الدنيا دون منهج يعرفون به كيف يتعاملون ويضبطون تصرفاتهم وعلاقاتهم، ويتحاكمون إليه فيرشدهم ويفصل بينهم في نزاعاتهم، وهو العدل سبحانه، ومن عدله ورحمته أن أنزل الكتب بالحق والميزان ليقوم الناس بالقسط.

• والعدل سبحانه لا يترك الظالم يبغي في دار الابتلاء، ثم يفلت من العقاب ولا يجعل للمظلوم يوماً يأخذ فيه بحقّه في دار جزاء لا يُظلم فيها أحدٌ ولا يبخس.

• والعدل سبحانه لا يسوّي بين المحسن والمسيء، فلا بد أيضاً من دار جزاء يفلح فيها من أحسن ويتميّز عمّن أساء، ويجازى صاحب الإساءة بما كسبت يده، بعد أن سبقت له النذارة، وعُرِّف سبيل الرشد والنجاة، قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾[الإسراء:١٥].

🌟 فالحاجة للنبوة تتعلّق بالدنيا والآخرة، وبالسير إلى الله، وبالتعامل مع الناس، وبإقامة مصالحهم وتحقيق العدل في دنياهم وأخراهم، فليس في الوجود حاجة أعظم من ذلك، وقد عمّ جُوْدُ الله تعالى هذا الوجود، وآثار هذا الجود شاهدة بذلك، فلا بد أن يلبّى هذا الجود العظيم أعظم الحاجات، ويأبى الله تعالى بحكمته ورحمته وكماله إلاّ ذلك.

🔹🔹 واقع النبوات يشهد.

• وهذا الذي تدلّ عليه هذه الضرورات العقلية السابقة، أدركته البشرية أمراً واقعاً ببعثة الأنبياء التي أشرقت بها الدنيا هداية ورحمة، خاصة أنّ الله تعالى جعلهم بشراً؛
ليمكن تمام الاقتداء بهم في مختلف أحوالهم البشرية.
وليكون أقوامهم على علم بهم وبصفاتهم من قبل البعثة؛ فلا يلتبس عليهم أمرهم. قال تعالى:﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ۝ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾[المؤمنون:٦٨، ٦٩] ، ﴿قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾[يونس:١٦]. وهذا شاهد آخر على أنّ كرم الله تعالى ورحمته فاضا على البشرية بأدقّ التفاصيل التي تحتاجها.

• وقد جعل الله تعالى الأنبياء من خيرة البشر، وحلاّهم بأحسن الأخلاق التي يتحتّم معها صدقهم، وهداهم إلى أقوم السبل لصلاح أقوامهم، وأفاض عليهم بعلوم متنوعة تشهد العقول بحسنها وصدقها، ثمّ أيّدهم فوق ذلك بأنواع من البيّنات والحجج المعنويّة والحسيّة التي أرغمت أعتى خصومهم.

🔹🔹القرآن يبين حقائق النبوّات ويبرهنها عقلاً .

• وقد اعتنى القرآن بالتنبيه إلى هذه الحقائق، فبيّن ضرورة الحكمة في الخلق منزّها نفسه عن العبث، فقال تعالى: ﴿أَفَحَسِبتُم أَنَّما خَلَقناكُم عَبَثًا وَأَنَّكُم إِلَينا لا تُرجَعونَ۝ فَتَعالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلهَ إِلّا هُوَ رَبُّ العَرشِ الكَريمِ﴾[المؤمنون:١١٥، ١١٦]، ونزّه نفسه عن ذلك في كلّ خلقه، فقال تعالى: ﴿وَما خَلَقنَا السَّماءَ وَالأَرضَ وَما بَينَهُما باطِلًا﴾[ص:٢٧]، فبيّن في كتابه ما فطر العقول عليه، وأكّد فيه ما يقود إليه التفكرّ والاعتبار في المخلوقات، من ضرورة حكمته ووجود الغاية من خلقه.

• وبيّن تفصيلاً الغاية من خلقنا وهي التعبد له، قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات:٥٦]، لتقوم هذه العلاقة الشريفة التي يقتضيها كمال ألوهيته، فيعبد بغاية الحبّ وكماله مع غاية التعظيم والتذلّل له، ويقع ذلك من مخلوق يتميّز بالعقل والإرادة، فيعبده اختياراً ويصبر على الابتلاء ويجاهد فيه سبحانه حقّ جهاده، فيظهر فيه من جمال العبودية وكمالها ما لا يظهر في غيره.
وهنا أيضاً تبرز الحاجة إلى الوحي؛ لأنّ الوقوف على تفصيل ما يحبّ الله تعالى أن نعبده به من الشعائر وما نتمثل له من الأوامر لا يمكن بغير الوحي، فبالوحي يعرف ذلك ويتميّز المطيع من المسيء، وتقام الحجّة الرسالية القاطعة للعذر، كما قال عزّ وجل: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرينَ وَمُنذِرينَ لِئَلّا يَكونَ لِلنّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزيزًا حَكيمًا﴾[النساء:١٦٥].

• وأشار القرآن لاختلاف الناس وحاجتهم للنبوة والوحي الذي يهديهم ويفصل بينهم، قال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ…﴾[البقرة:٢١٣].

🔹🔹مناسبة الاستعداد الإنساني لإثبات النبوّة.

مما يحسن أن نلاحظه هنا قبل الشروع في الحديث عن أدلة النبوة تفصيلاً، أنّ الإنسان مزوّد في خلقته بما يمكّنه من التثبّت من النبوة،

✅ فغريزة العقل الفطرية تفرّق بين الممكن والمستحيل، والنبوّة وفق هذه الغريزة ممكنة لا محال فيها، فقدرة الله تعالى كاملة، وأفعاله على ذلك شاهدة، ولا يمتنع عقلاً أن يصطفي من خلقه من يشاء فيوحي إليهم، ويجعل معهم ما يبيّن صدقهم من البيّنات المتنوّعة.

✅ وعقل الإنسان يستطيع التمييز بسهولة بين النبي الصدق والمدّعي الكاذب، لأنّه مفطور على التفريق بين المختلفات وإدراك التناقضات، فيرى من مضمون دعوة النبي الصادق من الكمال والسمو ما يميّزه بوضوح عن دجل الكذّابين وقبح ما يأتون به من الجهالات والضلالات، ويرى من أحوال النبيّ الصادق كذلك ما يدرك به صدقه وكريم أخلاقه، ما يباين بجلاءٍ أحوال الكذّابين.
وحال الخلق شاهد بأنّ الإنسان العاقل يفرّق بين الصادق والكاذب في أمور الدنيا بقرائن كثيرة، فكيف بالصدق في الإخبار عن الله أو الكذب عليه سبحانه! فأعلى درجات الصدق لا بد أن يقترن به من اللوازم ما يميّزه عن أحطّ درجات الكذب، خاصة أنّ النبوة تقترن -ولابدّ- بإخبار عن تصوّرات وتبليغ لأوامر ومنهيات، يظهر فيها الفرق بجلاء بين كمال الحق وصدقه، وانحطاط الباطل وكذبه.

✅ كما يتمتّع عقل الإنسان بالقدرة على تصوّر الأدلّة والحكم بصحّة التلازم بينها وبين ما يستدل بها عليه من قضايا، ليصل من ذلك لإثبات صحة قضيّة ما بدليلها الصحيح، وأوّل ما يدخل في ذلك قضيّة النبوّة لقوّة وظهور وكثرة أدلّتها.

🔹🔹مناسبة الواقع سابقاً ولاحقاً لإثبات النبوّة.

• كلّ ما سبق من إمكانات عقليّة يقابلها واقعاً دليل الحسّ الذي يعيشه من يدرك زمن النبوة ويشهد دلائلها من أحوال وبيّنات، بل ويدرك بعض ما فيه حسّاً من أتى بعد النبوة، فمن أدلّة النبوة ما هو حاضر بين أيدينا نقرؤه ونتعقّل ما فيه من آيات دالّة على صدق النبوة، وهو القرآن الكريم بإعجازه المتنوّع بالبيان والمعاني الخارجة عن قدرة البشر، وكذلك ما في الوحي عموماً من مضامين دالّة بذاتها على صدق النبوّة، مثل الكمال المعجز لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من نظم الأخلاق والتشريع، ومثل الأخبار الغيبية التي وقعت كما أخبر صلى الله عليه وسلم.

• ويقوم الخبر الصادق مقام الأدلّة الحسيّة التي لم يشاهدها من أتى بعد من النبوة، واعتبار الخبر قائماً مقام الحسّ في إدراك المعارف أمر ضروري، لا يمكن لبشر التنكّر له، فهو أساس في كل العلوم، إذ يستحيل بناءها على مباشرة كل تجربة ورصد كل حقيقة بالحسّ المباشر، فلا بد فيها من الخبر، بل إنّ الخبر الصادق أساس في تصرّفاتنا الحياتية، فنحن نعتمد عليها في معارفنا ونبني عليه قراراتنا باستمرار.

• والعقل البشري يشهد بإمكان المعرفة التاريخية ويقطع بها بعد إعمال العقل في تمحيص المعطيات ومقارنتها، ولذا كانت الأخبار التاريخية مصدراً واسعاً للمعرفة البشرية، يدركون بها الأحداث الكبرى والأشخاص وأحوالهم، فضرورة إحضار المعرفة من الماضي ضرورة بشرية، والعقل الفطري قادر على التمحيص والإدراك إذا نظر في تلك المعرفة وفق منهج سليم ودوافع حسنة.

• وهذا التعامل الاستدلالي العادي مع المعرفة التاريخية هو مسلك العقلاء، والخروج عنه تعنّت يتطلّب نظرة سلبية كلية منفصلة عن الواقع، وانطلاقاً من سوء ظن كلي مطبق، وهدر صروح معرفية ومناهج معقدة بطريقة تبسيطية يخجل منها العاقل، ولا يمكن لذلك أن يفيد المعرفة الإنسانية، بل يقوّضها بصورة يستحيل التعايش معها، ولذلك لا تجد في واقع الناس -حتّى من يظهر منهم التعنّت في هذه القضية- أنّهم يلتزمون التعنّت في حياتهم العادية، فهي مليئة بالبناء على معارف خبرية يثبتونها بتلقائية دون تردّد.

• ثمّ إنّ هذا الإشكال لا يقتصر على سوء الظن والتقويض للمعرفة البشرية، بل سيعود على الطعن بالعقل نفسه، لأنّه سيصطدم بما دلّ عليه العقل من الكمال الإلهي، فمن لوازم هذه النظرة السلبية الكليّة أنّ الله تعالى سدّ طرق المعرفة على عباده، وأهمّها معرفة صدق الرسل، فتغيب آثار الكمال الإلهي الضرورية، وتنتقض أدلة العقل القاطعة بثبوت هذه القضية، وقد سلف تفصيلها وبيان قطعيتها.

• وإذا كان إمكان حصول المعرفة التاريخية أمراً ثابتاً بالاستدلال العقلي المتجرّد عن التعنّت، وظاهراً في أصل المعرفة التاريخية، فإنّ لِما يتعلّق بالنبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار مزيّة كبرى لا يشابهه فيها غيره، فقد أثّر في البشرية أعظم التأثير، وغيّر مجرى التاريخ بمضامين رسالته وسيرته التي سار بها مع من تابعه ومن خالفه، مع كون دعواه هي أعظم دعوى، فهي دعوى النبوة التي ينجو من اتبعها ويفلح أعظم الفلاح، ويهلك من جحدها وكابرها أعظم الهلاك، ولذلك كثرت الأخبار التي تروى عنه، ووقعت العناية بها أيّما عناية، وتشكّلت لأجل ذلك مناهج علمية اعترف بعمقها وبراعتها المخالف والموافق.

• ومما يهمّ ملاحظته أن المضامين الأساسية التي ينبى عليها الاستدلال للنبوة قد تواردت عليها الأخبار وتكاثرت واستفاضت، بحيث نجد للمضمون الأساسي أخباراً متعددة تدور على إثبات معناه بألفاظ متنوعة ورواة متعددين في كل طبقات من روى تلك الأخبار، وهذا التوارد على المعاني مع التنوع والكثرة يفضي بالعاقل إلى القطع بثبوت ذلك المعنى وارتفاع الشك عنه ويحيل إمكان الكذب أو الخطأ فيه.

📝 ويمكن لمن أحب التوسع أن يقرأ المقال الإثرائي الملحق بهذه المقالة، ففيه مزيد بيان لموثوقيّة نقل السيرة والأخبار التي تتعلق بإثبات النبوّة.

 

🔸🔸خلاصة..
نخلص ممّا سبق إلى أنّ النبوّة ضرورة عقلية تنبني على كمال الله تعالى، وأنّها أمر واقعي، أدلّته ممكنة الإدراك سابقاً وحاضراً، والإنسان مؤهّل وقادر على إدراكها عقلاً وحسّاً وخبراً، قال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾[الأنعام:٩١]، فبيّن سبحانه أن مَن نفى النبوة لم يقدر الله حق قدره فيما وجب له واستحال عليه وجاز، إذ نسب الله عز وجل أنه لا يقدر عليها، وأنه لا يقيم الحجة على عباده ، ولا يأمرهم بما لهم فيه الصلاح، وادّعاءه فيه نفي لأعظم منة امتن الله بها على عباده، وهي الرسالة، التي لا طريق للعباد إلى نيل السعادة، والكرامة، والفلاح، إلا بها، فأي قدح في الله أعظم من هذا؟ فلا يقولها من عظم الله وعرف حق معرفته.

✨ وبهذا التأصيل يتمهّد لنا الشروع في مقصود المحور، حيث سنبيّن إن شاء الله جملة من أهم أدلة النبوّة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، سائلين الله تعالى العون والفتح والتوفيق للصواب.

 

✍🏻 فريق الميسر في تعزيز اليقين.