مقال إثرائي حول موثوقية نقل السيرة ومضامين إثبات النبوّة
▫️ ذكرنا في المقال السابق أنّ لِما يتعلّق بالنبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار مزيّة كبرى لا يشابهه فيها غيره،
• فقد أثّر في البشرية أعظم التأثير.
• وغيّر مجرى التاريخ بمضامين رسالته وسيرته التي سار بها مع من تابعه ومن خالفه.
• مع كون دعواه هي أعظم دعوى، فهي دعوى النبوة التي ينجو من اتبعها ويفلح أعظم الفلاح، ويهلك من جحدها وكابرها أعظم الهلاك.
ولذلك كثرت الأخبار التي تروى عنه، ووقعت العناية بها أيّما عناية، وتشكّلت لأجل ذلك مناهج علمية اعترف بعمقها وبراعتها المخالف والموافق.
▪️ وأشرنا إلى أنّ المضامين الأساسية التي يبنى عليها الاستدلال للنبوة قد تواردت عليها الأخبار وتكاثرت واستفاضت، بحيث نجد للمضمون الأساسي أخباراً متعددة تدور على إثبات معناه بألفاظ متنوعة ورواة متعددين في كل طبقات من روى تلك الأخبار، وهذا التوارد على المعاني مع التنوع والكثرة يفضي بالعاقل إلى القطع بثبوت ذلك المعنى وارتفاع الشك عنه ويحيل إمكان الكذب أو الخطأ فيه.
▫️ وعلى رأس ما نقل بطريقة قطعية القرآن الكريم الذي نقل بلفظه مع هذه الاستفاضة الكبيرة بما يورث القطع ويرفع الشك، وتفاصيل السيرة التي جاءت في القرآن كثيرة،
• من نشوء الدعوة ومرورا بتطوراتها ومواقف أنصارها وخصومها بأنواعهم من مشركين وأهل كتاب. • وفيه حال النبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة وحاله في استقبال الوحي، وما أمر به أوّل الأمر وما يختلج في نفسه.
• وبيان مضامين الدعوة والاحتجاج العقلي لها، وبيان التهم التي وجهت له والرد عليها.
•وبيان مقالات الرافضين للدعوة ونقاشها بالحجج العقلية.
• مع استعراض أحوال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين التاريخية بين البلاء والتمكين على مراحله وما فيه من مواقف تفصيلية مهمة.
• وبيان للواقع المحيط اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، وغير ذلك من أمور مهمة في فهم السيرة والدعوة والأحوال النبوية والمضامين التي جاءت بها الرسالة، وهذه أسياسيات في معرفة صدق النبوة.
▪️ونجد في السنة القطع كذلك باللفظ أو المعنى والمضمون في أساسيات من مهمّات أحواله -صلى الله عليه وسلم- وسيرته، وأخلاقه ودلائل نبوّته الحسيّة، وإخباره بالمغيّبات المستقلبيّة، وغيرها من قرائن الأحوال الكثيرة التي تدلّ على صدقه وصحّة نبوّته.
• وهذا قد تهيّأ لأنّ السيرة نقلت من الصدر الأوّل بأسانيد كثيرة متصلة يبدأ طرفها من النبي صلى الله عليه وسلم ومن شهدوا الأحداث في سيرته مباشرة، مع نشوء قواعد علم الحديث المنهجية التي تميز بين الصحيح وما يُردّ لفساد سنده أو متنه، من زمن الجيل الأوّل من الصحابة ومن تبعهم، إلى أن جمعت مادتها مصنّفات الحديث.
• وقد استوعبت تلك المصنّفات عامة خبر الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوي، والاجتماعي، والأُسَري، والشخصيّ.. وهي مادة تاريخية غزيرة جدًّا تُنشئ في القارئ إحساسًا قهريًّا أنّه قد صار قريبًا من حياة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم قرب أصحابه منها؛ لوقوفه على أدق تفاصيله الحياتية، ودفين هواجسه النفسيّة، وهو أمر لم تعرفه البشريّة مع أحد ممن حفظت ذكره صحائف التاريخ.
وقد أحسن ابن تيمية رحمه الله في قوله:
” ليس في الدنيا علمٌ مطلوبٌ بالأخبار المتواترة إلّا والعلم بآيات الرسول وشرائع دينه أظهر من ذلك، وما من حال أحدٍ من الأنبياء والملوك والعلماء والمشايخ المتقدّمين وأقواله وأفعاله وسيرته إلّا والعلمُ بأحوال محمّد صلى الله عليه وسلم أظهرُ من العلم به “.
🔹🔹دور علم الحديث ومنهج النقد الحديثي.
✅ استوفى منهج النقد الحديثي الإسلامي شروط فحص صحّة الخبر التاريخي على أعلى صورة، فقد اهتم بعدة أمور بصورة شمولية دقيقة، منها :
• أنّه اشترط عدالة الراوي وبعده عمّا يخل، وصدقه وضبطه بالحفظ والكتابة ودقّته.
• مع الاعتماد على الاحتياط، فتعدّ رواية المجهول ضعيفة حتى يعرف، وتردّ أحاديث من اختلط في عقله إذا لم يُميّز بين مرويات ما قبل الاختلاط وما بعده، وإذا اجتمع جرح وتعديل في راوٍ، يميل جمهور العلماء إلى تضعيفه، وقد ميّز أهل الجرح والتعديل الثقات والضعفاء إلى طبقات؛ للترجيح عند تخالف الروايات، والاعتضاد عند تآلفها وتقوية بعضها بعضًا.
• وبلغت الدقّة بعلماء الإسلام في الحكم على الرواة مبلغًا عجيبًا؛ حتّى إنّهم ميّزوا بين روايات بعض الرواة؛ وانتقوا منها انتقاءً بعد سبرها ومقارنتها بروايات الثقاة؛ وقد تُقبل رواية الراوي عن رجال دون آخرين، أو بلد دون آخر، أو مرحلة من عمره دون أخرى، أو إذا تُوبع لا إذا تفرّد، أو في موضوع دون غيره، أو إذا حدّث من كتابه لا من حفظه.
• ومّما اشترط أيضاً اتصال السند بين كل راوي ومن فوقه دون انقطاع.
• ثم ينظر في مقارنة الرواية برواية الآخرين مع مراعاة عدم المخالفة للأوثق.
• والتفتيش عن العلل الخفية التي تقدح في السند، أو تلك العلل التي تقدح في المتن، مثل المخالفة الصريحة للقرآن أو لليقينيات العقلية والحسيّة، أو للمعلوم من التاريخ الصحيح، وغير ذلك.
▫️ومن أوجه تفوّق المنهج الإسلامي أنّه يصنع الصورة الكبرى للسيرة انطلاقاً من مجموع الأحاديث بطريقة موضوعية، ويقارن بين الأخبار ويجعل ذلك من معايير التمييز وطرق النقد، ولقوّة هذا المنهج ووجود السيرة الصحيحة وإمكان تمييزها، توسّع المسلمون في الرواية بالأسانيد المتعددة الكثيرة، بل جمعوا حتّى الأخبار الباطلة أو التي قد تستعمل في طعن بعض قضايا الدين، فلم يخفوها بل عرضوها ونقدوها وبيّنوا وجه بطلانها، بل بيّنوا بطلان حتى ما يؤيد النبوّة ظاهراً إذا كان لا يثبت بطريق صحيح.
▪️ إنّ النظر في الأحاديث التي صحّحها علماء الإسلام يكشف أنّها ليست مؤلفات مطبوعة بلون واحد يظهر عليها أثر التركيب والرغبة في صياغة صورة واحدة محكمة الملامح من أوّل وهلة، بل يظهر فيها أثر صدق هذه الأمة واجتهادها في النقل الأمين والنقد النزيه.
وقد تناقل المسلمون منذ زمن النبوّة الحديث النبوي: «من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»، وقد رواه بضعة وسبعون صحابيًّا، وتداولوه تعليمًا وتنبيهًا، وحظّ انتشاره بين التابعين وتابعيهم أعظم من ذلك بكثير، فعظُم انتشاره في أمّة عظّمت الصدق حتّى في جاهليّتها، فكان دافع الخوف من النار تتميماً لطابعها الأصيل.
⁉️ ما الذي يملك العقلاء أن يضيفوه إلى ما سبق لدقة نقل وتمحيص الأخبار؟!
لا شيء!
▪️ إنّ إنكار حفظ السيرة النبوية يلزم منه ألا نصدق شيئا من خبر التاريخ؛ فإنه لا يوجد منها ما حقق ما يوازي معايير هذا المنهج أو قاربها، ومهما استرسل الإنسان في افتراض الاحتمالات، فلن يمكنه إنكار أنّ الصورة الكبرى للسيرة النبويّة مع خطوطها العريضة، ثابتة لا يزحزحها داعي الشكّ، وهذه الخطوط العريضة تؤدّي ضرورة إلى العلم بنبوّة رسولنا محمّد ﷺ.
▫️وقد أقرّ المخالفون بهذا الثبوت التاريخي لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن وما جاء من مضامين أساسية تبنى عليها قضيّة إثبات النبوة، يقول المستشرق والمؤرّخ – العنصري – الفرنسي (إرنست رينان):
” نشأت جذور الإسلام في مرأى التاريخ على خلاف الغموض الذي تغلّفُ به الأديان الأخرى أصولها، إنّ جذور الإسلام ظاهرة على سطح التاريخ. وسيرة مؤسّسه معروفة لنا كمعرفتنا بسِيَر أيٍّ من مصلحي القرن السادس عشر “.
يظهر بما سبق موثوقية نقل السيرة والمضامين المثبتة للنبوة، وما ذاك إلا من عناية الله تعالى بهذا الدين وحفظه له وإظهاره على غيره للأبد، كما وعد سبحانه وصدق : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر : ٩]، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة : ٣٣]
🔹🔹المراجع .
إمكان التاريخ وواقعية السنة للدكتور عبد الله الشهري.
براهين النبوة للدكتور سامي عامري.
✍🏻 فريق الميسر في تعزيز اليقين.
أحدث التعليقات