هناك من يدعي أن المبادئ العقلية الضرورية كالسببية محصورة داخل الكون ولا تنطبق خارجه، وهذا جواب كتبته سابقا على هذه الشبهة:

لايصح حدّ العقل بالكون بهذا الإطلاق، بل هناك تفصيل:

أ- إذا كان المقصود أنّه محدود في إدراك كيفيات تفاصيل الغيب, فهذا صحيح. بل هو –بالمناسبة- مبدأ نستفيد منه عند محاولة فهم الحكمة الإلهية المتعلقة بإفعال الله وتشريعاته, فنلتمس الحكمة مع علمنا المسبق بمحدوديتنا في فهمها.

ب- أما إذا كان المقصود نقص العقل على مستوى إدراك الكليّات الضرورية, وأنّ المباديء العقلية الضرورية كاستحالة اجتماع النقيضين أو جمع الواحد إلى الواحد يساوي اثنين أيضا لا يوثق بها خارج الكون, فهذا غلط كبير, وذلك للأسباب التالية:

1- أنّ هذه القواعد موضوعية مطلقة في ذاتها بغض النظر عمّا تتناوله, فلا يمكن أنّ واحد مع واحد يعطيك ثلاثة بغض النظر عن طبيعة هذا الواحد وذاك الواحد الذي يجمع إليه.

2- لو شكّكنا بإطلاق هذه المباديء تنهدم كل المعارف التي ترجع في النهاية إليها, إذ معنى قصرها على مجال الكون أنّها ليست مطلقة ولا موضوعية, فكيف نثق بها, وهذا كما قلت لك يؤدّي لانهيار المعرفة.

3- أنّ طبيعة العقل حين يعمل على المستوى المطلق أنّه يتجاوز حدود المحسوسات وقيودها, ولذلك أنت تعلم أنّ في الرياضيات أحكام تجريدية تتجاوز الكون بل لا تتحقّق فيه كاللانهائية مثلاً, وهذا يوقفك على طبيعة عقلية تمكّن العقل من استخدام المباديء العقلية الضرورية ولو خارج الكون. وينبغي هنا أن لا تخلط بين محدودية العقل وبين صحّة ضرورياته, فالمحدودية صحيحة حين نحاول إدراك التفاصيل في مجال الغيب, أمّا الضرورة فتتعلّق بالكليات بغض النظر عن المجال محلّ النظر.

4- أنّ الأصل صحّة هذه القواعد الضرورية الموضوعية التي نجد في أنفسنا ضرورة صحّتها بصورة مطلقة, فإذا زعمت أنّها لا تعمل في مجال معيّن فأنت تخالف هذا الأصل وتتنكّر لهذه الضرورة التي يعتقدها العقل ويجد في نفسه أنّه يصدّقها ولا يتشكّك فيها, فالتشكيك هنا هو ادّعاء غير مبرهن ومخالف للمعلوم الأصلي.

5- أنّه لا يوجد أي فرصة للخروج عن حدود العقل لما وراء الكون, فقدرات عقولنا هي أمر واقع, والخالق يستحيل أن يكلّفنا بما لا نقدر عليه أبداً, ولذلك فإنّ المعقول من جهة المحاسبة هو أنّه سيحاسبنا وفق ما نعقل لا وفق ما لا نعقل, فمن عطّل عقله فسيتحمل في الحساب أمام الله تعالى نتائج ذلك ولن يكون هذا عذر له, لأنّه تكلّف ما لا يعلم وادّعى ما ليس له دليل وعاند ما يجده في نفسه من الضرورة, فكيف يعذر مع ذلك. طبعاً هنا قد تقول أنّك لا تؤمن بالحساب آلخ, فأقول لك عدم إيمانك مبني على هذه الادّعاءات, فأنت من تحجز نفسك عنه, ثم حتّى لو فرضت فرضاً دون جزم أن ّالحساب ممكن, فإنّك ستجد أنّك تخاطر مخاطرة رهيبة لا رجعة عنها وتعرّض نفسك لهلاك أبدي لا ينفع عنده ندم, فلا سبب عقلاً لهذه المخاطرة فلِم تركبها مع عدم أي مؤيّد عقلي لها.

٦- طبيعة العقل غير المادية تؤيّد أنّ العقل يستطيع –رغم محدودياته- أن يتجاوز بأحكامه الضرورية نطاق الكون, لأنّه ليس مادياً أصلاً, وليس هناك تفسير تشريحي لظاهرة الوعي والتفكير, فالدماغ تطوّرياً هو مجرد خلايا وكهرباء وكيمياء, وهذا لا يفسّر الإرادة الحرّة والوعي والتفكير التجريدي والأخلاقي, فلا علاقة للمادة ولا للتطوّر بهذا, وإذا كان كذلك, فلا وجه لحصر العقل في الكون, إلاّ إن كان من باب التشبيه؛ لأنّه يعتمد على أنّك تشبّه غائبا بمشاهد, فهنا اتفق معك, ليس لدينا في الكون ما نعلم أنّه شبيه بما هو خارج الكون بحيث نستعمل المماثلة, لكن إذا تحدّثنا عن القواعد الضرورية الكليّة (المبادئ أو الأوليات كما تسمى أيضاً) العقلية فهي ليست من عالم المادة أصلاً, بل هي مودعة في العقل, ولا يوجد لها مصدر كوني حتّى نربطها بالكون ونفرّق في تقييمنا لها بين داخل الكون وخارج الكون.