الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد.

الصدق بين القيمة الخلقية والخديعة الفردانية!

من المقولات المنتشرة في عصرنا: كن نفسك.. وربما غلفت بغلاف الصدق فيقال: كن صادقا مع نفسك، ويعنون بذلك أن تطابق بظاهرك باطنك، ويقرّرون بأنّ في ذلك الراحة والسعادة، وعادة ما تساق هذه المقولات بإطلاق دون تقييد.

ولا يمكن أن تكون مطابقة باطن النفس بما فيها من تنوع في الأفكار والرغبات والأحاسيس والأهواء هي قيمة الصدق المحمودة بإطلاق، ولو حاول إنسان أن يكون صادقا بهذا المعنى فيفعل ما بدا له ولو كان مستقبحا عند العقلاء لعدّ مسيئاً ولم يحمد أحد له فعله بدعوى أنّه من الصدق.

وقد جاء في الحديث المتفق عليه: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تمنى وتشتهي، ‌والفرج ‌يصدق ذلك كله ويكذبه)، قال النووي: ” معناه أنه قد يحقق الزنى بالفرج وقد لا يحققه “، ففعل الزنا تصديق لما يدور في النفس.

وإنّما تكون مطابقة الباطن محمودة باعتبارين:

الأول: أن يستقيم الباطن بأن يكون حقاً، لكونه فطرة سليمة، وضمان سلامة الفطرة عرضها على الوحي، لأنا نعلم أن التحريف يصيب داخل الإنسان بالمؤثرات الخارجية، كما في حديث (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه..) الحديث، ولذلك أنزلت الشرائع، فهي تصحح الظاهر وتردّ الباطن لميزان الحقّ.
الثاني: أن يطابق بتعديل الباطن، فبدلاً من أن يفكّر في تغيير ظاهره لموافقة باطن باطل، يغيّر هذا الباطن إلى حقّ، فتكون المطابقة بالحق، وفي هذا تصحيح لما في النفس من باطل، وردّ له لما فيها من فطرة وصواب، ولهذا تحمد النفس اللوامة، ويحمد إصلاح النفس، ودواخل النفس تتنازع، خاصة إذا اعتبرنا تأثير الهداية وإلهام الخير مقابل الوسوسة الشيطانية، فتغليب الخير باطناً وظاهراً هو الصدق المحمود.

ويرجع الصدق الأعظم إلى الصدق مع الله تعالى، فأنت عبد مخلوق، وغيرك مخلوق، والحق سبحانه هو الذي يحمد لذاته، وتكون موافقته لذاته في محبوباته وتصديق ما يخبر به هو المعيار الثابت الذي لا يشوبه نقص ولا تبديل، وهنا يأتي صدقك في عبوديته بطاعته ظاهرا وباطنا ولو جاء ذلك خلافا لرغبة النفس.

يقول تعالى : ﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّدِقِينَ} ، ثم يقول ﴿ مَا كَانَ لِأَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ وَمَنۡ حَوۡلَهُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلَا يَرۡغَبُواْ بِأَنفُسِهِمۡ عَن نَّفۡسِهِۦۚ} الآية من سورة التوبة

ففي هذه الآيات من هذه السورة التي أكثرت من الحديث عن المنافقين الذين يخالف ظاهرهم باطنهم، جعل الله تعالى الصدق في عدم إيثار النفس على نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالصدق هنا لم يكن في رغبة النفس بل في خلافها صدقاً مع الله تعالى في عهد العبودية، فيكون عمله مطابقاً لهذا العهد المركوز في فطرته والموافق حقيقة لخلقته ومصلحته في الدارين.

إنّ مدح مطابقة ما في النفس واعتباره معيارا بإطلاق من أثر النزعة الفردانية التي ولدت لنا مفردات مثل تحقيق الذات وتوكيدها وعدم الاهتمام بما يقوله الآخرون وما إلى ذلك، وأيضا تقديس المشاعر الداخلية وكأنّ باطن الإنسان مصدر حق بإطلاق.

ولهذه المعاني صلة أيضاً بعبادة اللذة الفردية والسعي في تعظيمها وجعلها هي الهدف الأعظم من الحياة، ومحاولة إشباع ذلك بالاستهلاك واللهث المادي وراء مغذيات اللذة المؤقتة، وكل ذلك مخالف لمبدأ العبودية، وفيه حقيقة تعاسة الإنسان لمصادمته لسنن الحياة وطبيعة الاحتياجات النفسية الفطرية التي تطلب العبودية لله تعالى ولا تسكن لغيره جل في علاه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار..) الحديث.

ومن أثر تصحيح الرؤية في هذه القضية قبول عدم المطابقة على أنه خير من المطابقة أحيانا!

فعدم المعصية رغم أن الشخص يشتهيها في داخله هو عدم مطابقة محمودة، وهي في نفسها تطابق الفطرة والعبودية.

بل يمكن أن يكون الإنسان مقيما على معصية على استحياء وانكسار ويكون ذلك غير مطابق لبعض الفطرة وكمال العبودية من وجه كونه معصية، ومطابقا من وجه آخر هو الاعتراف والانكسار، ويكون ذلك خيرا له من مطابقة داخل فاسد بإطلاق يدعوه لعدم التناقض مطلقا، ويقول له كن صادقا وأظهر معصيتك وجاهر بها واطرد عليها في كل حين!

ولهذا دخل الشيطان على بعض الناس من هذا الباب، فشنع في نفوسهم انهم يتناقضون في اختلاف حالهم من بلد لآخر، أو بين وقت لآخر، وبدلا من التصحيح قادهم لاطراد الخطأ، كل ذلك كرها لعدم المطابقة وتزيينا لمطابقة باطلة باسم الصدق، وهو من جنس تصديق الفرج لشهوة الحرام!

ولو بقي هؤلاء في تناقض لكان خيرا لهم، لكن تضخيم الذات وفلسفة كن نفسك وهذه المعزوفات الرنانة جعلتهم يستعظمون التناقض، والتناقض هنا يمكن أن يجتمع مع الاعتراف بالضعف والانكسار للرب، ونفس لوامة خير من نفس مستكبرة تبرر الخطأ وتستحله بطريقة أو أخرى لتهرب من وخز الضمير وشهود عيوب النفس باسم ترك التناقض.

ومن أوجه تفضيل عدم المطابقة أحيانا ترجيح أعلى المصلحتين، كترك إنكار منكر يجر إنكاره لمنكر أكبر، أو عدم إنكاره بطريقة صريحة، وقد يرى بعض الناس أن من الصدق إظهار المساوئ في العلن بقالب الندم والاعتراف بالقصور، وهذا وإن كان قد يعد عند البعض شجاعة، لكنه يخالف مقصدا قدمه الشرع وهو الستر، ما يؤكد على ضرورة الضبط لرؤية الإنسان للصدق المحمود تبعا للشرع واتساقا مع العبودية.